Articals

«أنت والنجوم» مقتطف من المجموعة القصصية «تاريخ الحنين» للكاتب: ماريو بينيدتي.

26 September 2025
أنت والنجوم ابنٌ لمدرس ابتدائي وسيدة خيَّاطة؛ نحيفٌ، ممشوق القوام، بعينين سوداوين ويدين ناعمتين، يشبه مواطنًا عاديًّا من...

أنت والنجوم


ابنٌ لمدرس ابتدائي وسيدة خيَّاطة؛ نحيفٌ، ممشوق القوام، بعينين سوداوين ويدين ناعمتين، يشبه مواطنًا عاديًّا من سكان روسالس، تلك القرية الصغيرة العقيمة، الأمية والكادحة، بمصيرها المرتبط بوضوح بمصنعَينِ (قويين، مُدخِنَيْن، مربعين) برأس مالٍ أجنبي. كان أوليبا مفتشًا شرطيًّا، كما كان يمكن أن يكون بنَّاءً أو مصرفيًّا، بمعنى أن ذلك لم يكن لميوله، وإنما بالصدفة. من ناحيةٍ أخرى، لم تكن الشرطة ذات معنى لسنواتٍ طويلةٍ في الحياة اليومية بروسالس؛ إذ لم يكن أحد يرتكب جريمة. حتى إنّ آخِر جريمة، وهي مجرد ذكرى جرَت منذ عشرين عامًا على الأقل، كانت جريمة غرام معتادة؛ عامل المخزن دُن إستيبيث قتل زوجته، وكانت مريضة سرطان لا شفاء منه، ولم يفعل ذلك إلا ليوفِّر عليها الأسابيع الأخيرة من احتضار لا يُحتمَل. ومن ليلة إلى ليلة كان يطلّ على الميدان ذي الكنيسة الموقرة وقسم الشرطة ثَمِلانِ أو ثلاثة بسُكْرٍ معتدل، لكن الشرطة لم تكن تتدخل لأن سُكْرهم كان مُبهِجًا، وكان مقصورًا على رقص الميلونجا القديمة أو إطلاق نكات يظنونها بذيئة، بلا شك، مع أنها ملأى بالبراءة كالمراهقة.

كان المفتش يرتاد المقهى ويلعب الورق مع طبيب الأسنان أو الصيدلي، وأحيانًا يظهر في النادي ليناقش الصحفي أرويو بود حول الرياضة والسياسة الدولية. والحقيقة أن التخصص الصحفي لأرويو لم يكن الرياضة ولا السياسة الدولية، وإنما التنجيم، وفي صفحته اليومية للأبراج «أنت والنجوم» كان يكتب إشاراتٍ محددةٍ وقاطعةٍ عن موضوعاتٍ تخصّ المستقبل القريب. موضوعات في ثلاث مناطق؛ دولية ومحلية وقروية. وكثيرًا ما أصابت تنبؤاته في المناطق الثلاث، بحيث غدَت صفحته في جريدة لا إسبينا دي روسالس (جريدة الصباح) مقروءة بكل اهتمامٍ وتقدير، ليس فقط من جانب النساء، وإنما كذلك من كل أهل روسالس.

ربما يستحق الأمر أن نوضِّح أن اسم القرية لم يكن روسالس، وإنما نستخدم هذا الاسم لأسبابٍ أمنية. في أوروجواي اليوم، ليس الأفراد ولا الجماعات السياسية أو النقابات مَن يعانون النفي الشرعي، وإنما كذلك الأحياء والقرى والنجوع قد غدَت سرية.

بدايةً من انقلاب 1973م تعرَّض المفتش أوليبا لتغيُّر راديكالي. أول تغيُّر ملحوظ كان في شكله الخارجي؛ لم يكن من قبل يرتدي الزي الرسمي، وفي الصيف كان يرتدي قميصًا بنصف كُمٍّ. الآن هو والزي الرسمي صنوان. لقد أثَّر ذلك على ملامحه وشكل جسده وخطْوته وأوامره، وظهرت عليه صرامة وسلطوية لم تكن تظهر منه حتى عامٍ واحدٍ مضى. بالإضافة إلى ذلك، زاد وزنه (أو كرَّش، بلغة أهل روسالس) بشكل سريع وخارج السيطرة.

في البداية، كان أرويو يلحظ هذا التغير بارتياب، كأنه يعتقد أن المفتش يحاكي صورة ما، لكن في الليلة التي اعتقل فيها ثلاثة سكارى بتهمة «تكدير الأمن العام وخدش الحياء» مع أنهم غنَّوا وثرثروا كالعادة، في تلك الليلة أدرك أرويو أن تغيُّرًا قد جرى بكل جدية، وفي اليوم التالي عبَّرت أعمدة «أنت والنجوم» عن تكهُّنٍ مُظلِمٍ يخص المستقبل القريب لأهل روسالس.

لقد عانت المدرسة الثانوية الوحيدة، ولأول مرة، من إضراب طلابي. وكما حدث في محليات أخرى، كان يحضر فيها طلاب من أعمارٍ مختلفة؛ بعضهم شبه أطفال وبعضهم شبه ناضجين. في هذا الإضراب الافتتاحي تظاهر الطلاب ضد الانقلاب، وإغلاق البرلمان، وضد إنهاء عمل النقابات، والتعذيب. ولعدم علمهم بالتغيُّر الذي طرأ على أوليبا، اصطفُّوا بلافتات مناهضة حول الميدان، وقبل أن يُنهُوا جولتهم الثانية أُلقِي القبض عليهم. اعتذر إليهم الشرطيون (وبعضهم أعمام أو عرَّابون للثوريين)، وهمسوا لهم بنبرة تحمل من النقد ما تحمله من الرعب أنها «أشياء أوليبا».

من بين الستين معتقلًا، أطلق المفتش سراح خمسين، قبل مرور 24 ساعة، ألقى عليهم خطبة عصماء، قال في بعضٍ منها إنه لن يتسامح مع أي تافه يصفه بالفاشي. أما العشرة الباقون (وهم الوحيدون البالغون) فحبسهم في قسم الشرطة وقطع عنهم الزيارات. وعند الفجر صدحت الآهات بجلاء، وطَلَبُ النجدة، والصرخات الممزِّقة للقلوب. كان من الصعب على الأهالي (وعلى الأمهات خصوصًا) تصديق أنهم في الشرطة يُعذِّبون الأولاد، لكنهم صدَّقوا.

في اليوم التالي أصبح أرويو أكثر تشاؤمًا في صفحة النجوم، وكتب عبارات مثل هذه: «شخصٌ ما سيمارس أحد أشكال القمع ليدمر حياة أهل روسالس، وستراق الدماء، لكن على المدى البعيد سيفشل». كان في القرية محامٍ واحد يمارس مهنته، فتوجَّه إليه الآباء ليدافع عن الشباب العشرة، لكن حين ذهب الدكتور بورخا ليقابل القاضي وجده أيضًا مسجونًا. كان الأمر مضحكًا، لكنه حقيقي. حينئذٍ تحلَّى بالشجاعة واتجه إلى قسم الشرطة، إلا أنه ما إن ذكر كلمات «استصدار مذكرة جلب» أو «الحق في الإضراب» حتى أمر المفتش بطرده من مقر الشرطة. قرَّر المحامي حينئذٍ السفر إلى العاصمة. مع ذلك، ولأن الآباء لم يروا بارقة أمل، سبق أن أخبرهم أن أغلب الظن أن مونتفيديو ستؤيِّد أوليبا. بالطبع لم يَعُدْ بورخا، وبعد عدة أشهر بدأ جيرانه في روسالس في إرسال سجائر له في السجن الجنائي ببونتا كارِّيتاس، وتكهَّن أرُّويو: «اقتربت ساعة الجنون. سيستقر الكُرْه في النفوس الطيبة».

حينما حدثت حفلة الرقص؛ شيء خارج سلسلة أحداث القرية المعتادة، كان أحد المصنعَينِ قد أَسَّسَ مركزًا اجتماعيًّا يستخدمه العمال والموظفون. أَسَّسُوه بنِيَّة تحييد الأحداث الثورية العمالية، لكن يجب أن نعترف بأن أهل روسالس جميعهم مَن استخدموه. كان الشباب والناضجون كذلك يلجأون إلى المركز ليثرثروا ويرقصوا كل يوم سبت في الليل.

كان رقص السبت ربما الحدث الجماعي الأهم بالنسبة إليهم. وفي المركز الاجتماعي كانوا يتبادلون شائعات الأسبوع، ومن هناك تنطلق خِطبات المستقبل، وتتنظم التعميدات، وتُصاغ حفلات الزفاف، ويتنفس المرضى ومَن في فترة النقاهة. في زمن ما قبل الانقلاب، كان أوليبا يحضر إليه بتكرار، والجميع يعتبره جارًا لهم، والحق أنه كان كذلك، لكن بعد التحول غدَا المفتش يتحصَّن في مكتبه (معظم الأحيان كان ينام في القسم أمارةً على أنه في الخدمة)، ولم يَعُدْ يرتاد المقهى ولا يمر على النادي (كان تجنُّبه لأرويو ملحوظًا) ولا حتى يقترب من المركز الاجتماعي. مع ذلك، ظهر في ذاك السبت برفقة حراس ودون إنذار. صوت الأوركسترا المسكينة تعلَّق في الهواء، وتسمَّر الأزواج الذين كانوا يرقصون في مكانهم دون حتى أن يستردوا أذرعتهم، كأن علبةً موسيقيةً تعطَّل فيها عمل الزنبرك.

حين سأل أوليبا: «مَن مِن النساء تريد أن ترقص معي؟» انتبه الجميع إلى أنه سكران ولم يُجِبْه أحد. كرَّر السؤال مرتين ولم يُجِبْه أحد. كان الصمت كثيفًا، حتى إن الجميع (رجال الشرطة والموسيقيين والجيران) استطاعوا سماع غناء صراصير الليل غير المتناغم. حينها اقترب أوليبا، ومن ورائه حراس، من كلاوديا أوريبي، وكانت جالسة بجانب زوجها على دكة بجانب النافذة الكبيرة. في الشهر السادس من حملها الأول كانت كلاوديا (الشقراء، اللطيفة، الشابة، المقبلة على الحياة بما يكفي) تشعر بثقلٍ وتتحرك بحيطةٍ كبيرةٍ؛ إذ حذَّرها الطبيب من مخاطر الإجهاض.

«أتريدين الرقص؟» سألها المفتش رافعًا الكلفة وقابضًا على ذراعها. نهض أنيبال، زوجها العامل في البناء، بوجهٍ شاحبٍ وغاضب، لكن كلاوديا سارعتْ وأجابت: «لا يا سيدي، لا أستطيع». «معي تستطيعين»، رد أوليبا. حينها صرخ أنيبال: «ألا ترى بطنها؟ دعها في سلام. ألا تريد ذلك؟» وردَّ أوليبا: «لا أتحدث معك، أنا أتحدث معها، وهي سترقص معي». زاد غضب أنيبال، لكن ثلاثة من الحراس طوَّقوه، وأمر أوليبا: «خذوه»، فأخذوه. أحاط ذراعه خصر المرأة الحامل المشوَّه، وأشار بحاجب إلى الأوركسترا، وحين شرعت في لحن غير متجانس، سحب كلاوديا إلى المرقص. كان جليًّا أن الفتاة تحتاج إلى هواء، لكن لم يتحمس أحد للتدخل، من بين عدة أسباب قاطعة، لأن الحرس رفع أسلحته. رقص الرجل والمرأة من دون توقف ثلاث رقصات تانجو، ورقصتَيْ بوليرو، ورقصة رومبا. وفي النهاية، وكانت كلاوديا على وشك الإغماء، سحبها أوليبا إلى كرسيها مرة أخرى وقال: «أرأيتِ كيف تستطيعين؟» ثم انصرف. في تلك الليلة أجهضت كلاوديا أوريبي.

ظل الزوج معتقلًا لعدة أشهرٍ، واستمتع أوليبا باستجوابه بشكل شخصي. ومستغلةً أن طبيب آل أوريبي ابن عم لأحد وكلاء وزارة، وعضو في لجنة عليا يرأسها الطبيب، توجَّهت كلاوديا إلى العاصمة لتقابل هذا الشخص المرموق، لكنه اقتصر على نصحها: «يبدو لي من الأفضل عدم تحريك القضية. أوليبا رجل في محل ثقة للحكومة. لو بدأتم في النبش أو في المطالبة بمحاكمة، فسيبدأ في الانتقام. نحن في زمن البقاء مستكينين والانتظار. انظروا إلى ما أفعله أنا نفسي. أنتظر، أليس كذلك؟».

لكن في روسالس، لم يخضع أرويو للانتظار. بدايةً من هذا الحدث نظَّم حملةً ممنهجة. ويوم الإثنين، في عمود «أنت والنجوم»، كتب في نبوءته لأهل روسالس: «قريبًا ستأتي ساعة دفع الحساب»، ويوم الأربعاء أضاف: «توقعات سوداء لمن يستغل قوته أمام الضعفاء»، والخميس: «لكل ظالم نهاية ويستحقها»، والجمعة: «النجوم تنبئ بلا هوادة بنهاية الصبي؛ صبي الطاغية».

يوم السبت توجَّه أوليبا شخصيًّا إلى جريدة إسبينا دي روسالس. لم يكن أرويو موجودًا. حينئذ قرَّر التوجه إلى بيته، وقبل أن يصل قال لحراسه: «دعونا بمفردنا لأتفاهم مع هذا الساقط ابن العاهرة؛ فأنا أكفي وأفيض». حين فتح أرويو الباب دفعه أوليبا بعنف ودخل دون كلمة. لم يسقط أرويو ولم يَبدُ مذهولًا، واقتصر على أخذ مسافة من المفتش، ودخل الغرفة الوحيدة التي تطل على الصالة ويستخدمها غرفة مكتب. تبعه أوليبا، وشاحبًا وبفم مُطبَق وقف الصحفي وراء مكتب بأدراج، لكنه لم يجلس.

– هكذا تتنبأ النجوم بنهايتي؟

– نعم، قال أرويو. الذنب ليس ذنبي؛ هي مَن يتنبأ.

– هل تعرف شيئًا؟ بالإضافة إلى كونك ابن عاهرة، أنت كذاب.

– لا أتفق يا مفتش.

– هل تعرف شيئًا آخر؟ الآن ستجلس وتكتب مقال الغد.

– غدًا الأحد، ولا تصدر الجريدة.

– طيب، مقال الإثنين، وستكتب أن النجوم تقول إن صبي الطاغية سيعيش لسنواتٍ طويلة، وأنه سيعيشها في حظ وصحة.

– لكن النجوم لم تقل ذلك يا مفتش.

– النجوم تحت حذائي! ستكتب ما أُملِيه عليك، والآن!

كانت حركة أرويو سريعة، حتى إن أوليبا لم يحاول حتى الدفاع عن نفسه أو الهرب. كانت طلقة واحدة، لكنها مُهلِكة. وأمام عينَي أوليبا المفتوحتين والمصعوقتين وهو يتهاوى، أضاف أرويو بهدوء:

– النجوم لا تكذب أبدًا يا مفتش.