أينشتاين وسيف دون كيخوته
أليست الرؤية الكلية للعالم من منظور علم الفضاء هي رؤية صبيانية ساذجة قياسًا برؤية علم النفس على الجانب المقابل؟ بينما أكتب هذه السطور، لا أستطيع منعَ نفسي عن التفكير في عيني «ألبرت أينشتاين» الواسعتين اللامعتين الأشبه بعيني طفل؛ فمع كل التبجيل والاحترام، أرى أنَّ سَبر أغوار النفس الإنسانية والتعمُّق في حياة البشر لَهُو أمرُّ أشد نضجًا وأكثر رُشدًا من إطلاق التكهُّنات حول مجرة درب التبانة. يقول جوته: «لكل إنسان مطلق الحرية في شَغْل نفسه بكل ما يأسر انتباهه، وكل ما يُشيع الفرحة في قلبه، وكل ما يجني فائدة من ورائه، لكن المعرفة الحقيقية لا تبدأ إلا من دراسة الإنسان نفسه». أما دون كيخوته فهو بحق مُنتَج غريب الأطوار، مخلوق بريء، يتحرك دُون عقل ولا ضابط متخبِّطًا في تِيه تناقضاته. وأمام هذه الروايات القصيرة المتناثرة في ثنايا العمل، وأمام المغامرات المفرطة العاطفية، لا أملك إلا أن أهزَّ رأسي مندهشًا، وعلى الأخص بسبب أسلوب المؤلف وطريقته التهكُّمية على الأشياء التي يتعرَّض لها، فبعد أن يعطي المؤلفُ القارئَ جرعته من المتعة، ما يلبث أن يَسلبها منه، وكأنه يُخضع مريضَه لخطة علاج انسحابي. في هذه الحكايات تَخلَّى «ثيربانتيس» عن دوره القديم، وكأنه أراد أن يُظهر للناس قدرته –مثل الزمن تمامًا– على إتقان فنِّه الروائي متى أراد ذلك. لكن يساورني شكٌّ في أن المؤلف قد تخلَّى عن عادته في تدبيج الخطابات الإنسانية التي يُجريها على ألسنة شخوصه الروائية، مثلما أشكُّ في أنه قد تخلَّى عن دأبه على تشويه شخصياته، وعن عادته في إجبارها على تجاوز دورها، والتحدُّث باسمها بطريقة خالية من النضج الفني. لكني أقول إنها ممتازة؛ وأقصد هنا تلك الخُطب الإنسانية العصماء التي كان يتلوها على مسامع فارس الرداء الأخضر ، منها على سبيل المثال خُطَبه عن التربية والطبيعة وشاعرية الفن. وقد بلغت خُطب «دون كيخوته» قدرًا من الحكمة والعدالة وحُب الخير والإحسان والنبالة، وهو ما أدهَشَ رفيق السفر، ودفعه للعدول عن رأيه السابق بأن يكون «دون كيخوته» رجلًا أحمق. وهذه هي الحقيقة، وعلى القارئ أن يعدل عن هذا الرأي أيضًا لو قد ظنَّ بـ «دون كيخوته» هذا الظن. صحيح أن سلوك «دون كيخوته» لم يكن يخلو من نَزَق، لكنه لم يكن رجلًا غبيًّا البتَّة، وأغلب الظن أن هذه الحقيقة كانت غائبة عن ذهن المؤلِّف نفسه عندما شرع في تأليف العمل، لكنه كلما انغمس في عملية السرد القصصي، ازدادَ احترامُه لهذا المخلوق الغريب الأطوار الذي تفتَّق عنه ذهنه. ولعل هذه العملية تحديدًا هي النقطة الأشدُّ روعةً في الرواية برمَّتها. إنَّ مؤلَّف دون كيخوته نفسه هو عمل روائي قائم برأسه، لا يمكننا فهمه بمعزل عن الرواية الأصلية، التى نبتت في عقله في البداية كمحاولة متواضعة لتأليف عمل هَزْلي ساخر، دون أن تدور بخلده قطُّ الأبعادُ الإنسانية/الرمزية التي ستتَّخذها شخصية البطل. لكن تغيُّر المنظور أسفرَ عن تماهي المؤلف مع بطل روايته، وأغراه بوضع أفكاره الشخصية على قَدَم المساواة مع أفكار البطل، واستخدامه [أي استخدام دون كيخوته] كلسانِ حالٍ ناطق بآرائه وتأملاته، فأقبلَ المؤلف على تزيين أخلاق الفرسان النبيلة بسمات الرِّفعة الروحية والثقافة الرفيعة، برغم ما كانت تثيره هيئة «دون كيخوته» من سخرية وشعور بالشفقة. والحق أن «سانشو» ظلَّ يكنُّ إعجابًا لا حدود له بسيِّده؛ لروحه السامية وبلاغة لسانه، وهي الأسباب التي جعلته جذابًا في أعين الآخرين كذلك.