Articals

الزيت والنار.. بين تولستوي ودوستويفسكي

15 February 2025
لا يوجد كاتبان أكثر قربًا من الداخل وفي الوقت ذاته أكثر تناقضًا لبعضهما البعض من تولستوي ودوستويفسكي

في فقرة من أشد الفقرات جرأة في «الأخوة كارامازوف» نقرأ على لسان إيفان وهو يخاطب الشيطان المُتخيّل (أو الحقيقي، من يدري؟): «ستبقى بالنسبة إليَّ حقيقتان، واحدة هناك،عندهم في السماء، وهي الحقيقة التي ما زالت مجهولة لي تمامًا، والأخـرى حقيقتي أنا. ولا يدري أحد إلى الآن، أيّ الحقيقتيْن أشرف».

لكن ربما نرى لاحقًا في نهاية هذه السطور إلى أي الحقيقتيْن كان ينتمي تولستوي ودوستويفسكي. ليس هذا -في قراءتي- عملًا سيريًا لأهم كاتبيْن في تاريخ الأدب: تولستوي ودوستويفسكي، وإنما هو عمل عن المصالحة بين الأضداد. صحيح أن الموضوع قُتل دراسة على يد مئات الباحثين، أشهرهم نابوكوف (المتجنّي على دوستويفسكي) وغيره، لكن لا بأس من ترديد اللحن الجميل في أوقات هيمنة الرداءة.

وَفق دميتري ميريرجكـوفسكي، لا يوجد كاتبان أكثر قربًا من الداخل وفي الوقت ذاته أكثر تناقضًا لبعضهما البعض منهما، وهنا قوّة العمل، أنه تورّط أو ربما وقع (عن وعي أو لاوعي) في الإشادة بعظمة الكاتبيْن على حد سواء. أما عني، وهذه فرضيتي الرئيسة التي أسعى إلى إثباتها عبر هذه المادة، فأرى العملَ إنفاذًا أدبيًا للمادة الأولى من مدوّنة أحكام كارل ج. يونغ التي تنصّ على أن وجود العوامل المتضادة (المقدّس والمدّنس، الإنسان وظلّه، الوعي واللا وعي، الزيت والنار) هـو المبدأ الراسخ في الكون، وأن الحكمة الحقيقية تكمن في المصالحة بين الأضداد، يجزم يونغ أن حـضور الله يتجلّى في أبهى صوره داخل النفس الإنسانية، أو باللاتينية في مبدأ coincidentia oppositorum (وحـدة الأضداد)، ويشهد تاريخ الأديان في مجملها على حقيقة أن مبدأ وحدة الأضداد هـو أقدم المظاهر الدالة على وجود الله، أو كما يقول عبد الجبار النفّري: «مَن لم يرني من وراء الضدَّين رؤية واحدة ما رآني (موقف الرفق)، «وقال لي إذا كنت عندي رأيتَ الضدين والذي أشهدتهما فلم يأخذك الباطل ولم يفُتك الحق» (موقف المطلع). هل من قبيل المصادفة أن تاريخ ميلاد دوستويفسكي هو 9 نوفمبر، وأن تاريخ وفاة تولستوي 20 نوفمبر؟

أتكلم هنا عن كتاب تولستوي ودوستويفسكي: الحياة والإبداع لدميتري ميريرجكـوفسكي، بترجمة ممتازة للأستاذ تحسين رزاق عزيز (دار المأمون للترجمة والنشر 2021). صحيح أنني في البداية شعرتُ بميل المؤلف إلى جانب دوستويفسكي قليلًا (وقد اعترف الرجل صراحة بذلك) إلا أن الرجل عَدل الكفّة وعاد واعترف (ص 136) بأنه عندما ينظر إلى وجه كل واحد منهما على حِدة، يمكن الحُكم عليهما ومقارنتهما، وتفضيل أحدهما على الآخر، لكن عندما يراهما معاً لا يعود يعرف أيهما أقرب إليه، وأيهما يحبّ أكثر. وأنا كذلك.

دوستويفسكي لا يحبّ الحديث عن نفسه، على العكس من تولستوي. يقول ستراخوف (ناقد أدبي ومؤلف كتاب ذكريات دوستويفسكي): «لم يُلاحَظ عليه قط أي حزن أو مرارة من المعاناة التي تحمّلها، ولم يكن ظلًا للرغبة في أداء دور المتألّم، بل على العكس، بدا مبتهجًا ونشيطًا».

لم يكن دوستويفسكي يعرف كيف يثير الفضول بحياته الخاصة، لديه القليل من فضح الذات، كما لديه القليل من اللوم، برغم ظروف حياته القاسية وحُكم الإعدام الذي نجا منه في اللحظة الأخيرة. وهذا ما يعجبني في شخصية الكاتب. أنه «رجـل» بالمعنى الأخلاقي/السلوكي الواسع للكلمة، ليس شكّاءً بكّاءً يولول على التفاهة في الحارات وعلى المنصّات. اللحظات التي قضاها في انتظار الموت المحقق كان لها تأثير لا يُمحى على حياته الروحية اللاحقة بعد أن فهم شيئًا لا يفهمه الشخص الذي لم يختبر انتظار الموت.

قِبَلَ دوستويفسكي حكمَ الأشغال الشاقة ولم يشتكِ منه، حاول أن يسمو على ذكرياته وأن يعظّمها، رأى في التجربة درسًا من دروس القَدَر، لكنه دَرس الخلاص. قال كلمة، والله، لم أرَ ما يضايهها في الأدب روعةً وقوة وعظمة بعد الكتب المقدسة، رسالة إلى أخيه من سيبيريا: «أنا لا أشتكي، فهذا صليبي الذي أستحقُه» (ص 98). كان دوستويفسكي يحمل صليبه الذي يستحقّه ولم يشكُ منه مرة واحدة.

أما تولستوي -والكلام هنا للمؤلف- فكل ما كان يحلُم به ويطمح إليه أن يتخلّص من نبذ الملكية والعمل الجسدي والاندماج وسط الناس، هذا كلّه كان على دوستويفسكي أن يختبره عمليًا، وبأشدّ قساوة ممكنة. مهما قطع تولستوي الأشجار لأجل الفقراء، ومهما حرث الأرض بعرق جبينه، فإن سعيَه لا يقارَن بالخطر الحقيقي من عدم العثور على لقمة يسدّ بها رمق أسرته (أقصد أسرة دوستويفسكي).

يذهب المؤلف إلى أن دوستويفسكي كان في هذا الصدد أكثر سعادة من تولستوي، لأن القَدر أرسل له فرصة لتجريب الأشغال الشاقة وحاجات البشر العاديين، ليس من خلال الأفكار المجردة، بل عبر القرب الحقيقي من الموت وهو يقف على سقالة الإعدام، أو وهو يرهن سرواله وملابس زوجته ليأكل. يذهب المؤلف أيضًا إلى أن دوستويفسكي لا يحتاج إلى التأملات المجردة التي تدعو إلى نبذ الملكية وظروف المجتمع الثقافي، فهو نفسه منبوذ. أما تولستوي فقد قدّمَ حسابًا صحيحًا ودقيقًا، ولكن في الحقيقة، تبيّن أنه غير مثمر لحياته، يضيف المؤلف نصًا: «إننا نشعر أن ثمة فارقًا كبيرًا في الأصالة، إن لم تكن في الأفكار والنيّات، ففي الأفعال والأحاسيس».

***

في أحيان كثيرة تميل الكفّة لصالح دوستويفسكي، وهذا لا يُعجبني، أو أقول لا يبرز الحقيقة الكليّة الشاملة لكليهما. تصادفَ وأن اطلعتُ مؤخرًا على كتاب «ليف تولستوي: الهروب من الجنة»، بترجمة نزار عيون السود، حيث نتابع الأيام الأخيرة من حياة تولستوي، وتحديدًا ملابسات هروبه من «ياسنايا بوليانا».

مهيبًا وعظيمًا كان وصف مشهد هـروب شيخ طاعن في السنّ، واهن القوى في جنح الظلام من وراء زوجته، ثمّ يأس الزوجة من هروب زوجها (الذي كان متوقعًا منذ زمن)، وكلمته القاسية: «أرجوكِ.. لا تلحقيني إذا ما عرفتِ مكاني»، هذا الهروب البطولي النبيل، في الليلة المصيرية 28 أكتوبر 1910 يعادل -في ظني- كل ما كتبه الرجل، وكل ما كتبَه الكُتّاب على مـرّ العصور.

كان هروب تولستوي من حياته هو ترجمة أمينة لآية سفر الجامعة: «وجّهتُ قلبي لمعرفة الحكمة ولمعرفة الحماقة والجهل، فعرفتُ أنّ هذا أيضًا قبض الريح» (17:1).

لم يكن تولستوي يهرب من الصعوبات، على العكس، في سنواته الأخيرة كان يحمد الله عندما يرسل له النوائب والمصائب، وكان يتقبّل بقلب خاشع أية منغصات حياتية. يرى المؤلف أن هروب تولستوي كان مظهر ضعف، لكني أرى العكس، أراه مظهر قوة أبرَزَ معدنه الحقيقي في أن يخطو خطوة شجاعة ليجتاز الجسر، في هذه اللحظة تحرّرَ تولستوي، وكان هروبه عملًا تحرريًا، يختم به حياته بطريقة لائقة به، شيء على طريقة أفيال فتحي غانم. في رسالة من بين عدّة رسائل وداع إلى زوجته قال: «لم أعد أستطع العيش بعد الآن في ظروف البذخ والفخامة التي عشتُ فيها، وأفعل ما يفعله الشيوخ المتقدمون في السن، يخرجون من الحياة الدنيوية المدنية ليعيشوا آخـر أيامهم في العزلة والسكينة». هل من تفسير باطني للمسألة؟

في كتاب «عن الحياة - بحث في طبيعة الحياة ومغزاها» بترجمة بارعة للكاتب والمترجم المصري يوسف نبيل، وفيه يبثّ الرجل أفكاره ورؤاه حول الحياة ومغزاها نقرأ الفقرة التالية (ص 64):

«لا تولد الثمرة لأنها تود أن تُولَد، ولأن من الأفضل لها أن تُولد، بل لأنها نضجَتْ، ويستحيل أن تواصل وجودها السابق. عليها أن تُسلم نفسها لحياة جديدة، ليس لأن حياة جديدة تناديها وحسب، بل لأن الأمر يرتبط أكثر بزوال إمكانية مواصلة وجودها القديم».

أقول ربما ارتأى تولستوي أنه صار من المستحيل عليه اجتياز الجـسر، والعبور إلى الولادة الجديدة (الموت) وفي قدميه نعلا الحياة القديمة. كان لا بدّ من خلع النعلين. كان لا بد لهذا الطود أن يموت ميتة لائقة بجلال قدرِه، وما كان للفيلسوف الروسي الماجن، العمّ يروشكا، العائش خارج نواميس الإنسان وخارج الخير والشرّ بحسب المؤلف إلا أن يموت هذه الميتة التراجيدية؛ ألا يموت في فراشه حتف أنفه كما يموت البعير. أظنّ لو قُـدّر لرجل حقيقي أن يختار عيشة سوية، لعاشَ عيشة دوستويفسكي، مكافحًا، مصطبرًا على نوائب الدهر، مكافحًا لأجل أسرته بكدٍ حتى الرمق الأخير من حياته، ولو قُدّر له أن يختار ميتة هنية، لمات في العراء بطلًا مثل تولستوي.

ثمة نقطة شجعتني قليلًا على اختيار تشبيه «الزيت والنار» عنوانًا لهذه المادة، والتشبيه نفسه ابتكره المؤلف، ولكن في سياقٍ آخر متّصل بوصف أهل الثقافة بأنهم زيت بلا نار. لكني لويتُ عنق التشبيه ليلائم غرضي. الزيت والنار لا يجوز أن يلتقيا، ولو حدث والتقيا لنشب حريق.

في كتاب «أبي فيودور دوستويفسكي» لِـلوبوف فيودوروفنا دوستيوفسكايا، ابنة دوستويفسكي (ت: د. أنور محمد إبراهيم، 2020)، نقرأ أن كل واحد كان يُكنُّ إعجابًا عظيمًا لصاحبه، كانا يتبادلان المجاملات عن طريق صديق مشترك هو نيكولاي ستراخوف، لكنهما لم يلتقيا قط. نقرأ في صفحة 286: «لماذا؟ يُخيّل إليَّ أنهما كانا يخشيان بدرجة مميتة أن يدخلا في شجارٍ بمجرد أن يلتقيا، كان كل منهما يُقدّر موهبة الآخر تقديرًا رفيعًا، لكن أفكارهما ورؤيتهما للعالم كانتا على طرفي النقيض». وعندما مات دوستويفسكي كتبَ تولستوي (صفحة 289 من الكتاب نفسه): «علمتُ بوفاة دوستويفسكي، يُخيّل إليَّ أنني فقدت إنسانًا عزيزًا، أكثر الناس الذين كنتَ بحاجة إليهم». لم أستغرب أن تولستوي لم يحاول رؤية أكثر الناس الذين كان بحاجة إليهم، لأنه فنان. في تراثنا الشعبي المصري فزورة تقول: «بيقولك إيه؟ بيقولك اثنين إخوات ساكنين جنب بعض...وعمرهم ما شافوا بعض؟ يبقى إيه؟ يبقي عينيك يا ناصح».

***

الآن بدأت أتنبّه إلى سـرَّ إعراضي منذ سنوات -عن جهلٍ وثقافة ضحلة- عن أدب تولستوي، وهو أنني لم أفهم. حـاجز غامض طالما وقف بيني وبينه، برغم أن أول ما قرأتُ في حياتي، وكنت في العاشرة، نسخة من سلسلة كتابي من الحرب والسلم بإعداد حلمي مراد، اشتراها لي أبي من فرشة كتب على ناصية ميدان الجامع في أواخر الثمانينيات. ولسبب مجهول ابتعدت عنه. ولما كبرت فضّلت عليه دوستويفسكي، ثم اكتشفت شيئًا مؤخرًا؛ تولستوي يذكّرني بأبي: تجربة الحياة الطويلة، الهادىء المتجرّد من الانفعالات والأهواء.

أما دوستويفسكي، برج العقرب، فهو يمثّلني: الانفعالي الذي لا يخلو من عاطفة وتسرّع وتهوّر، كما أن دوستويفسكي هو الكاتب الذي يُشعركَ أن ترهلات الرواية قد تكون ميزة جمالية، أو لو اقتبست من يوميات مصطفى ذكري: «نحمد الله أن سرعته في الكتابة، وميلودراميته، وروحانيته العاصفة، وتعثراته المؤثرة، وسوء بناء رواياته، كانت سرّ فنه العظيم».

السبب الثاني أن موهبة تولستوي السردية أقوى وأشدّ تماسكًا، وكلامَه الوعظي لا يشوّه أدبه كثيرًا. هناك شعور بأنك لا شيء أمام فخامـة المعمار الروائي عنده، وكأنك تقف أمام Kölner Dom؛ شيء مـرعب لا تستطيع مجاراته، أنتَ (أقصد مهما كنتَ من أنتَ باستثناء جويس وكونراد في اعتقادي) نكرة، لا شيء على الإطلاق. واصلتُ البحث حتى عثرتُ على تفسير وجيه عند هارولد بلوم في المعتمد الغربي في الأدب، إذ يقول: «ربما ثمة شيء في تولستوي لم يتخلّص منه، وهو الرغبة في مضاهاة بل تخطّي هوميروس والكتاب المقدّس». ومعه حق؛ تولستوي مغرور، مزهوّ بذاته مثل غـوته، بارد المشاعر بحسب بلوم، لكنه طود ثابت لا يهزّه ريح، ودوستويفسكي تسخن مشاعره بسرعة ثم تبرد بسرعة أكبر، لكنه لا يضمر ضغينة لأحد. هل كــفَّر تولستوي عن غروره وصلفه بفعل الهروب؟ هذا متروك للمؤرخين والمتخصصين ولا يعنيني كثيرًا.

ها نحن أولاء أمام نمطين رفيعين من الأدب: أدب يشوبه الانفعال والترهّل والتسرّع وقسوة الشـرّ، وأدب مشحون بالرصانة والرزانة والعُمق والرسوخ. وها نحن أمام نمطين متباينيْن من أنماط الحياة: حياة استمرّت صاخبة مؤلمة طافحة بالمعاناة ومات صاحبها على فراشه بعد قراءة آيات من الإنجيل بحسب مذكرات ابنته، وحياة أخرى جرَّب صاحبها رغـد العيش وملذات الدنيا ومات غريبًا بعيدًا عن أهله (باختياره). يقول مونتيني: «لا أحد يستطيع أن يحكم على حياة إنسان إلا في نهايتها». علمتَ فالزمْ. كلاهما كشف عن جانب مظلم وآخـر مشرق من جوانب الحياة. أفكُّر لو أني وضعت كفّة دوستويفسكي/تولستوي أمام كفة توماس مان/هسّه، لرجحتْ كفة الروسييْن بلا ذرة تردد، الحياة شيء والأدب شيء آخـر. أحيانًا تكون حياة الكاتب أعظم من أعماله (حياة جورج أورويل وآرائه في مقابل رواياته المتواضعة)، وأحيانًا تكون أعماله أعظم من حياته (كتوماس مان وجون م. كوتزي مثلًا)، وأحيانًا يكون الفن قويًا صاخبًا كحياة صاحبه (دوستويفسكي، تولستوي، وأضيف كونراد وأسرار حياته الغامضة). وربما هذا ما سيضمن للحضارة الروسية الصمود أمام فضلات ما بعد الحداثة الغربية وتشوّهاتها.

تبدو حياة تولستوي وحياة دوستويفسكي رائعتيْن ولو بشكل متعاكس، وذلك بسبب غلبة الجسد على الروح عند الأول، وغلبة الروح على الجسد عند الثاني. وبذلك فإنهما تكملان وتتمان بعضهما البعض، وكل واحدة ضرورية للأخرى. في نهاية الكتاب يورد المؤلف فقرة، ربما تختزل كل شيء في حقيقة بسيطة مؤداها أنهما رائعان هكذا في تناقضهما الأبدي وفي وحدتهما الأبدية. تولستوي هو عرّاف الجسد، ودوستويفسكي هو عرّاف الروح، واحد يسعى إلى بعث الروح في الجسد، والآخـر يسعى إلى تجسيد الروح، وإن أملنا [ربما كان الأجدر بالمؤلف أن يقول وعينا] يكمن في حقيقة أنهما اثنين وأنهما معًا، وأنه لا يُمكن أن يكون أحدهما دون الآخـر.

***

لنعد إلى بداية هذه المقالة، أقصد الفقرة المأخوذة من كارامازوف على لسان إيفان. في اعتقاد المؤلف كانت هاتان الحقيقتان (الإيمان/الشك) متعايشتيْن حتى عند المؤمن الورِع ليف تولستوي، ليس في وعيه المرئي، بل في الاستبصار فقط (صفحة 272)، لكن تولستوي لم يكن يملك القوة والشجاعة اللازمة، مثلما عند دوستويفسكي، للنظر في عيني (الإيمان/الشك) نظرة مباشرة والإفصاح عن ذلك إفصاحًا مبينًا. هل هذا صحيح؟ أظن أن الجزم بالأمر يتجاوز قدراتي المتواضعة، ربما يحتاج إلى فيلسوف متخصص أو عالم نفسي.

تجربة الحياة وحدها هي ما تكشف لكَ حقائق الأشياء. تقرأ في البداية، ربما لا تفهم، ثم تمرّ بتجارب تشرح لك ما قرأتَ. قبل الحُكم عليه بالإعدام كان دوستويفسكي يكرّر في قلبه: «ارحمني..كما رحمتَ اللص الذي خلّصتَه». كان يقصد لصّ اليمين بالطبع. في الفصل الأخير من مذكرات ابنة دوستويفسكي، نقرأ أن دوستويفسكي في لحظات احتضاره اعترف وتناول القربان المقدّس وأوصى أفراد أسرته ألا يقعوا فريسة اليأس لو ارتكبوا خطيئة، وأن الله سيفرح بعودتهم كما يفرح بعودة الابن الضال. ميتة هادئة تبرّد أوار حياة مضطربة، وهي نقيض طريقة اختيار تولستوي لميتته لما أحسَّ بدنوّ أجله. لكن برغم هذا التناقض حتى في طريقة الموت ألا نرى وحدة الأضداد من وراء كل ميتة؟ ألا نرى قاسمًا مشتركًا خفيًا يُدرك بالقلب ولا يُقال باللسان؟ هل كان كلاهما لصّ اليمين على طريقته؟

يُورد المؤلف في الصفحات الأخيرة قصيدة جميلة لبوشكين، أراها مثالًا حيًا لوصف طبيعة الرجليْن، تقول: «لقد كانا صورة لشيطانَـيْـن اثنين، أحدهما صنم من دلفي، وجه فتى كان غاضبًا، مفعمًا بفخرٍ رهيب وكله يلهث بقوة خارقة، والآخـر مثال مريب وكاذب شهواني، كاذب، لكنه مليح». هكذا هما، هذان الإلهان، أو الشيطانان في تناقضهما الأبدي وتوافقهما الأبدي.

------------------------

من كتاب «في فردوس الكتب»، ترجمة وتعليق: أحمد الزناتي

اطلب الكتاب من هنا