القبو النفسي
مقتطف من كتاب «السافل والمضحك» للكاتب: علي الشدوي
يمكن أن ننظر إلى الأسلوب اللغوي على أنه القبو النفسي للمجتمع. ولكي نفهم المقصود سنعود إلى المعاصرين لمقامات بديع الزمان الهمذاني، ولنشأة ألف ليلة وليلة؛ فكيفية تفكير المعاصرين أو الأقرب إلى أن يكونوا معاصرين في عملٍ أدبي معين واستجابتهم له ونظرتهم إليه تشكِّل ركيزة أساسية لا واعية للواقع. يمكن للعمل الأدبي الذي يتخذ فكرة، أو ظاهرة معينة، أو أسلوبًا معينًا، أن يعرفنا رؤية جماعة من الناس، وربما أكثر من ذلك؛ أي رؤية المجتمع كله في مرحلة تاريخية معينة إذا ما انتبهنا إلى استجابات الناس المميزة للعمل الأدبي، والمعبِّرة عنهم[1]. فاستجابات المتلقين، حتى لو من جهة سلبية، كما هي الحال تاريخيًّا مع حكايات ألف ليلة ليست استجابة بلا قيمة، فهي تعطينا صورة عن أفكار الناس ومواقفهم.
سنستعين باستجابة كاتبٍ معاصِر لبديع الزمان هو أبو حيان التوحيدي لحكايات ألف ليلة وليلة. يقول التوحيدي: «ولفرط الحاجة إلى الحديث وُضع فيه الباطل، وخُلط بالمحال، ووُصل بما يُعجب ويُضحك ولا يؤول إلى تحصيل مثل هزار أفستان وكل ما دخل في جنسه ضروب الخرافات[2]». بالنسبة إلى أبي حيان التوحيدي فحكايات ألف ليلة وليلة ليست أكثر من حاجة إلى الكلام، لكن الحاجة هنا ليست بمعنى الضرورة التي تفرضها الحاجة إلى الكلام الجاد فيكون حقًّا وعقلانيًّا وجادًّا من أجل هدفٍ سام، بل هو كلام فائض وغير ضروري. لذلك فقد تضمَّن كل ما لا يكون في الأسلوب السامي والجاد والرسمي كالباطل واللاعقلاني والهزل، وما لا عهد لأحد به، وهذه تقريبًا هي بعض سِمات الأسلوب الهزلي كما ندرسه هنا.
لا يعترف أبو حيان التوحيدي بأن الواقع يمكن أن يُخرج الحديث والمتحدِّث عن رزانتهما وجزالتهما وصدقهما، ولا أن هناك لذة في سرد السيئ والقذِر لا بوصفهما كذلك، بل لأن ما يفرِّق بين الرائع والمضحك سوى خطوة واحدة. ولأن ما هو إنساني ليس بغريبٍ عن الإنسان. ولا يعترف التوحيدي بأن هناك لذة في الكلام عن أسوأ الأفعال التي ارتكبها الإنسان في حياته، ومتعة في أن يروي أعماله القذرة. ولا يتصور أن الناس يستمعون إلى المتكلِّم المضحِك أكثر من المتكلم الذي له قيمته ومزاياه. في مقابل هذا الأسلوب الهزلي وغير الرسمي والوضيع الذي وصفه أبو حيان التوحيدي يوجد الأسلوب السامي والجاد والرسمي الذي وصفه الوزير ابن سعدان؛ فهذا الأسلوب «يأتي من خطرات العقل، وقد خُدم بالصواب في نغمة ناغمة، وحروف متقادمة، ولفظ عذب، ومأخذ سهل، ومعرفة بالوصل والفصل، ووفاء بالنثر والسجع، وتباعد من التكلف الجافي، وتقارب في التلطف الخافي[3]». بالنسبة إلى الوزير فالأسلوب السامي يعتمد على العقل، ويُخدم بالحقيقة، وتتلبسه البلاغة البعيدة عن التكلُّف، وتراعي شروط الكلام الجاد.
يمكن أن نفسر وجود هذين الأسلوبين؛ أي الأسلوب الجاد والسامي والرسمي والأسلوب الهزلي والوضيع بالرجوع إلى الأصول الاجتماعية والثقافية للحديث والمتحدثين؛ فالأسلوب السامي يلائم نظامًا مطلقًا، يعمل فيه المتحدث حسابًا لمن هو في قمة السلطة أو قريب منها. في مقابل هذا الأسلوب يكون الأسلوب الوضيع ملائمًا للعامة. لقد نتج هذان الأسلوبان عن تصوُّر الطبقة العليا والطبقة الدنيا لطبيعة المجتمع؛ فالتحليل التاريخي لتصور الطبقتين يجد منبعه في الشكليات التي تُراعى في الطبقة العليا دون الطبقة الدنيا، وفي الطابع النمطي الذي يتحكم في حديث الطبقة العليا، في مقابل الطابع المرن في الطبقة الدنيا.
[1] - انظر: هيبووت، مايك، تصوير الشيخوخة، الرؤية السسيولوجية للشيخوخة في لوحات العصر الفيكتوري، في: انغلز، ديفيد، وهغسون، جون (تحرير)، سوسيولوجيا الفن، ترجمة: ليلى الموسوي، مراجعة: محمد الجوهري، الطبعة الأولى، (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة، 341، يوليو، 2007) ص 184. مافيزولي، ميشيل، تأمل العالم، الصورة والأسلوب في الحياة الاجتماعية، ترجمة: فريد الزاهي (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2005) ص 42
[2] -التوحيدي، أبو حيان، الإمتاع والمؤانسة، صحَّحه وضبطه وشرح غريبه: أحمد أمين وأحمد الزين (بيروت، منشورات دار مكتبة الحياة) جـ1/23.
[3] - التوحيدي، جـ1/22.