Articals

بين الصفحة والواقع: كالفينو والجسر الهش بين العالم المكتوب وغير المكتوب

20 July 2025
بين الصفحة والواقع: كالفينو والجسر الهش بين العالم المكتوب وغير المكتوب"أنتمي إلى ذلك الجزء من البشر -وهم إن كانوا أقلية...

بين الصفحة والواقع: كالفينو والجسر الهش بين العالم المكتوب وغير المكتوب


"أنتمي إلى ذلك الجزء من البشر -وهم إن كانوا أقلية على مستوى الكوكب، لكنهم أغلبية بين جمهوري- الذي يصرف قسطًا كبيرًا من ساعات اليقظة في عالم خاص، عالم مكون من خطوط أفقية حيث تتبع الكلمات بعضها البعض، كلمة تلو الأخرى، وحيث تشغل كل جملة وكل فقرة مكانها المحدد.

هذا العالم المكتوب شديد الثراء، بل ربما يكون أشدَّ ثراءً من العالم غير المكتوب، لكنه يستلزم مني التكيّف لأموضع نفسي داخله. وعندما أغادر هذا العالم الذي نُطلق عليه عادةً العالَم المكوّن من ثلاثة أبعاد وخمس حواسٍ، والمسكون بمليارات الأفراد من بني جنسنا، لأجد موضعي في العالم الآخر، أتلقى في كل مرة صدمةً لا تقل عن صدمة الولادة.

مهمة الكاتب هي إلباس مزيج من الأحاسيس المشوّشة رداء الواقع المعقول، واختيار استراتيجية لمواجهة ما هو غير متوقّع من دون الانهيار. أعتقد أن الأمور سارت في شبابي على هذا النحو.

لكني حينذاك كنت مسكونًا بوهم أنَّ العالمَ المكتوب ينير العالم غير المكتوب والعكس بالعكس، وأن تجارب الحياة تتكامل مع تجارب القراءة بشكل أو بآخر، وأنّ كل خطوة أخطوها إلى الأمام في مجال، متوافقة مع خطوة في المجال الأخر.

في مقدوري اليوم القول إني أعرف عن العالم المكتوب أكثر مما كنت أعرفه من قبل. صحيح أن التجربة ممكنة دائمًا داخل عالم الكتب، لكن نطاقها لا يتجاوز الهامش الفارغ للصفحة. بدلًا من ذلك فإن ما يحدث في العالم لا يتوقف أبدًا عن إدهاشي، ولا يتوقف عن إفزاعي وإرباكي. طرأت على حياتي عديد من التغييرات، على مستوى العالم الواسع وعلى مستوى المجتمع وعلى الصعيد الشخصي، لكني برغم ذلك غير قادر على التنبؤ بأي شيء، سواء بالنسبة لنفسي أم لمن أعرفهم، فضلًا عن شيء متصل بمستقبل الجنس البشري.

أستريح لفكرة أن الأدب طالما كان موضع فهمٍ أكثر من غيره من الفروع الأخرى، لكن هذا يذكرني بأن القدماء وجدوا في فنون الأدب مدرسة للحكمة، بيد أني أدرك أن كل فكرة عن الحكمة إنما هي فكرة بعيدة المنال في عالم اليوم.

ربما يراودكَ سؤال ها هنا: ما دمتَ تقول بأن عالمك الحقيقي هو عالم الصفحة المكتوبة، وما دمتَ تجد راحتكَ في هذا العالم وحده، فلماذا تريد تركـه إذن؟ ولماذا تُــقْدِم على خوض غمار هذا العالم الشاسع الذي تعجز عن إحكام السيطرة عليه؟

الجواب بسيط: لكي أكتب.

لأنني كاتب، ويُنتظر مني أن أجيل النظر فيما حولي، وأن ألتقط الصور السريعة لما يجري، ثم أعود لأنكفئ فوق مكتبي وأستأنف العمل؛ فكيما أعيد تشغيل مصنع الكلمات الذي أديره، ينبغي لي الحصول على وقود جديد من آبار العالم غير المكتوب."


مقتطف من ورقة بحثية ألقاها كالفينو في معهد العلوم الإنسانية في 30 مارس 1983.