Articals

من الخوف إلى العجز: كيف نفهم الكراهية؟

12 May 2025
في عالم تتصاعد فيه خطابات الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي، يصبح تحليل هذه العاطفة السامة ضرورة لفهم كيف تُفقِدنا إن...


في عالم تتصاعد فيه خطابات الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي، يصبح تحليل هذه العاطفة السامة ضرورة لفهم كيف تُفقِدنا إنسانيتنا. فكما يقول الفيلسوف أورتيجا إي جاسيت: "الكراهية عاطفة عاقبتها اندثار القيم"... فكيف تتحول الكراهية من شعور فردي إلى وباء اجتماعي؟"

يجيبنا إيه. سي غرايلنغ في كتاب «معنى الأشياء» في الفصل المعنون بـ (الكراهية).

بينما تنشأ مشاعر مثل الذنب والفخر من علاقتنا بذواتنا وقيمنا الشخصية، تختلف المشاعر الموجهة نحو الآخرين - كالكراهية والشفقة - في ظاهرها، لكنها تحمل في أعماقها بذورًا من أفكارنا وافتراضاتنا الخاصة. "عادة ما تتمحور مشاعر الذنب، أو العار، أو الفخر حول الذات، أو حول الأشياء التي يرتبط بها المرء ارتباطًا وثيقًا، كالارتباط بالعائلة أو الدولة مثلًا (بالنسبة إلى الوطنيين). ولا جرم أنها مشاعر لها مرجعية ذاتية، بمعنى أن للذات وحدها القول الفصل في الحكم عليها، أما مشاعر الحب، والكراهية، والازدراء، والشفقة فهي مُوجَّهة نحو الخارج، أي نحو غرباء أو أشياء دخيلة على النفس، ربما لا تبدو للوهلة الأولى كأنها ذات مرجعية ذاتية، ولكنها كذلك حقًّا، ولكن على نحو غير مباشر.

وعلة ذلك أن أغلب العواطف تحمل في طياتها افتراضات؛ فأنت إذا شعرت بالخجل فمرد شعورك هو افتراضك بأنك ارتكبت ما يثير ازدراء الآخرين، وإذا ما شعرت بالشفقة فمرد شعورك هو افتراضات بأن من تشفق عليه جدير بأن تُقبِل عليه برحمتك؛ وسواء كان هذا أو ذاك، تبقى أنت في الحالتين طرفًا أساسيًّا في المعادلة، وتبقى إبرة البوصلة متحركة وفقًا لتلك الافتراضات.

وينطبق الكلام السابق خصوصًا على شعور الكراهية، وهو في أساسه شعور بالعداوة والبغضاء المشتعلة إلى أقصى درجة، وهو شعور مُستمَد من مجموعة معتقدات (تصورات) توغر صدر الكاره بنار مشاعر أخرى، أهمها الخوف، والجهل، والغيرة، والغضب، والاشمئزاز."

يطرح الكاتب سؤالًا: هل يمكن أن تكون الكراهية مجرد قناع نخفي وراءه عجزنا عن مواجهة ذواتنا؟ ويجيبنا عليه بقوله:

ومع ذلك، خُذ في حسبانك أن هذه المشاعر كلها، وعلى الأخص الثلاثة الأولى منها (الخوف، والجهل، والغيرة) متعلقة بذات الكارِه، ومن ثم فشعور الكراهية يكشف عما تكنه صدور الكارهين أكثر من كشفه عن الشيء الذي يكرهونه؛ إذ تُظهِر مواطن الضعف فيهم، ومن هنا فالكراهية عاطفة فجة تطرد مشاعر الخوف والقلق إلى الخارج لتثبيتها على شماعة شيء آخر؛ فعندما يكره المرءُ شخصًا لأسباب معقولة بعد ثبوت غشه، أو انكشاف خبث طويته، أو ثبوت خيانته مثلًا، سيكون رد الفعل المناسب هو ازدراء هذا الشخص، والامتناع عن مجاملته على المستوى الاجتماعي؛ لأن الشخص الحقير لا يستحق الطاقة التي تستلزمها المشاعر الصادقة.

ومثلما يقول لاروشفوكو في ملاحظته: “عندما تبلغ مشاعر الكراهية في قلوبنا ذروتها، تضعنا في مرتبة أدنى ممن نكرههم”. وهي نقطة ذات صلة بما أقول، أما الوعَّاظ الأخلاقيون (وهم الساعون إلى فرض تصوُّرهم الأخلاقي على الجميع في صورة القيم العائلية الحديثة التي أثبتت فشلها الذريع على نحو مؤلم) فهم يضمرون في الحقيقة كراهية لأي شخص يفكر تفكيرًا مختلفًا عنهم، ومن المؤكد أنهم في هذه الحالة قد استوفوا مقومات وجود الكراهية، وهي: الخوف من الخيارات المختلفة وأنماط الحياة المغايرة، والجهل بمصالح الناس وخبراتهم الحياتية، والغيرة منهم بسبب تحررهم من الضوابط التي يفرضها الوعَّاظ الأخلاقيون على أنفسهم، وامتلاء أنفسهم بمشاعر الاشمئزاز والغضب مما يفعله الآخرون.

وما المقومات السابقة إلا المواد الخام لصنع الكراهية التي من شأنها تكريس قيم القمع والتزمت وضيق الأفق عندما تُقدَّم مُغلَّفة بخطاب الأخلاق التقليدية الذي تفوح منه رائحة الورع، وحقيقة الأمر تكمن في أن وجهات النظر، التي يسعى الوعَّاظ الأخلاقيون إلى فرضها على الآخرين، غالبًا ما تكون تعبيرًا عن أشد ما يخشونه في دخيلة أنفسهم، ومثلما لاحظ هيرمان هسه: “إذا كرهت شخصًا ما فإنك تكره في الواقع خصلة فيه تُذكِّرك بنفسك”.

وكما نرى في مواقف النازيين إزاء اليهود، والمثليين، والغجر، والمنحدرين من أعراق سلافية، وهكذا تصل الكراهية ذروتها عندما تنصب على مجموعات بعينها يُنظَر إلى أفرادها باعتبار وجودهم داخل تلك المجموعة ولا شيء سواه، فيحل على الأفراد من اللعنات مثلما يحل على “تصنيف” مجموعتهم التي أُدرِجوا ضمنها، مع أنه من اليسير أن تكره التصنيف العام نفسه، لكن هيهات أن تكره إنسانًا عرفته معرفة شخصية لمجرد كونه مُدرَجًا داخل ذلك التصنيف.

قد يكره المرء شخصًا ويزدريه، لكن الباعث الحقيقي وراء شعور الكراهية ثاوٍ في أعماق طبقة غائرة في قرارة نفسه، إلى درجة أنه لا يغدو أن يكون كشفًا عن القصور العاطفي للكارِه نفسه، وشتان بين الشعورين.

أضف إلى ذلك أنه من السهولة أن نكره فردًا لمجرد انتمائه إلى جماعة معارضة؛ لأن الكراهية في حقيقتها عاطفة تلقائية بدهية بالنسبة إلى العقل الجمعي، مثلها في ذلك كمثل عاطفة الولاء التام وغيرها من العواطف الهيستيرية الخالية من الشكل والقوام. الجدير بالذكر أن الكراهية دائمًا ما تبدأ من مستصغر الشرر، وكما كتب سارتر: “يكفي أن تكره رجلًا واحدًا فقط لكي تنمو الكراهية وتبتلع البشرية بأسرها خطوة بخطوة”.


لقراءة الكتاب، يمكنك الحصول عليه من هنا.