لكل مكان سينماه
لا يوجد في السينما خصائص أحادية للأماكن، بل هي مختلفة متغيرة، حسب رؤية المخرج، وقصة الأبطال، والسؤال الدرامي الذي يطرحه الفيلم، "إن المكان، وكل عناصره، لا يحضر في السينما بريئًا ومحايدًا وكاملًا، كما في أصله الطبيعي، بل يحضر وَفق رؤية خاصة له، ووَفق تقييم ثقافي" ، فالجزيرة، حسب طبيعتها البيئية والجغرافية، هي "منطقة من اليابسة تُحيطها المياه من كل الجهات، لا ترقى مساحتها لتكون قارة" هذا هو تعريف الجزيرة جغرافيًّا، وهو وصف لا يتغير تحت أي ظرف، لكنها في السينما أمر مختلف تمامًا، فقد تكون الجزيرة هي الغاية الذي يُسعى إليه مثل "جزيرة الكنز" (1950) لبايرون هاسكِن، عن القصة ذائعة الصيت لروبرت لويس ستيفنسون، وقد تكون هي الامتحان الذي يكشف خبايا الطبيعة البشرية مثل "أمير الذباب" (1990) لهاري هُوك عن رواية الحائز على نوبل ويليام غولدنغ، ويحكي عن أطفال تسقط طائرتهم فوق جزيرة، وهناك يكشفون، كما هو متوقع، عن طبيعة الإنسان الآثمة منذ سِني الطفولة، وقد تأتي الجزيرة فخًّا يتعرض فيه الأبطال لمَا هو خارق للطبيعة، باعتبارها محاطةً بالبحر، أي بمصدر الغرائب في الوجدان البشري (راجع/ي "المسطحات المائية") مثل فيلم "أولد" (2021) لإم. نايت شاملان، فـ "الجزيرة، باحتوائها على عوامل التدمير، تحتوي أيضًا على عوامل الحماية والأمان، أو التخلص من الخطر" .
هناك احتمالات قصصية لا نهائية في كل مكان، "فلا يوجد مكان فارغ أو سلبي" ، لنتخيل أن هناك بيتًا عاديًّا في شارعٍ عادي، وأن من يعيش هناك رجل وامرأة، يمكن هنا أن نقول بأنه فيلم رومانسي اجتماعي مثل فيلم "امرأة تحت التأثير" (1974) لجون كاسافيتس، أو "صباح الخير يا زوجتي العزيزة" (1969) لعبد المنعم شكري.
ماذا لو غيَّرنا بعض الأشياء، كأن تكون الشقة في بلدٍ غريبٍ، وفيها زوجان فرَّا للتوِّ من "مكانٍ" آخر، مع إضافة بسيطة هو وجود فجوة في الجدار لا يستطيع الزوج إغلاقها (راجع/ي "جدران واشية")، نحن نتحدث هنا عن الفيلم البديع "هِز هاوس" (2020) لريمي ويكس، والزوج الذي ارتكب خطيئة كبرى في أيام الحرب من دون علم زوجته كي يُسمح لهما بالفرار، ماذا لو كان هناك شقة مُشابهة لكن في برلين الشرقية في زمن ما قبل سقوط الجدار، سيكون لدينا فيلم "حياة الآخرين" (2006) لفلوريان هينيكل فون دونرسمارك؛ حيث يتجسس رجل المخابرات الصارم على كاتب وعشيقته في واحدٍ من أروع الأفلام عن السحر الذي ينقلب على الساحر، وقبعته، وأرانبه.
قد يأتي المكان متحركًا أيضًا، قطار على سبيل المثال، وما دام هناك قطار، فلدينا فيلم يحتوي كليًّا أو جزئيًّا على قصة وفود أو مغادرة مثل "أنا وأنت وساعات السفر" (1988) لمحمد نبيه، أو "قبل الشروق" (1995) لريتشارد لينكلاتر، وهي رحلة غالبًا ستغيِّر حياة الأبطال إلى حيث لا رجعة.
لكن إذا كان ذلك القطار في أوروبا في أربعينيات القرن الماضي، فغالبًا ما سيكون حاملًا للمعتقلين إلى المعسكرات النازية، إن كان القطار في وجهته الصحيحة، فهذا فيلم "قائمة شندلر" (1993) لستيفن سبيلبرغ، وإن كان مُخطئًا في الوجهة فهو "قائمة شندلر" أيضًا لكن في المَشاهد الموتِّرة، حين يذهب السائق بالنساء الناجيات، خطأً، إلى معسكر أوشوفيتز، المعسكر الأقذر سمعةً بين الجميع.
لنفترض أنَّه قطار في دولة سلام؛ لكن أحد الركاب، ليس في مقصوراته، بل على سقفه، هذا يعني أنَّ هناك شيئًا خارجًا عن القانون، هامشيًّا، وخطيرًا، وغير مرغوب به، مثل أبناء الشوارع في "حين ميسرة" (2007) لخالد يوسف، أو مشاهد العراك الكثيرة في أكثر من فيلم "أكشن"، أو ببساطة لدينا منتصر (أحمد زكي) في "الهروب" لعاطف الطيب (1991) فارًّا من الشرطة في مشهده الشهير بالقميص الأسود والشال الأبيض الذي يرفرف كحمامة لا تستطيع الفكاك.
القطارات السريعة يُمكن إيقافها قسرًا أيضًا، وهذا لا يحدث إلا في الكوارث، أو كما يصفه يوسف المنسي "ده اللي بيقولوا عليه في الجرايد الحادث المروِّع"، مثل "بطل من ورق" (1988) لنادر جلال، حين أوقف القطار عنوة للقبض على القاتل المختل سمير (أحمد بدير)، أو قطار الحجاز في الثورة العربية الكبرى، وها هو "لورانس العرب" (ويليام أوتول) راقصًا فوق إحدى مقطوراته بالبشت العربي وخنجر القبيلة.
"لكل مكانٍ سرده، والرحَّالة الذين يجوبون الأرض يعرفون ذلك، وما يختص به مكان من حكاياتٍ لا يتشابه تمامًا، وإن بدا كذلك، السندباد لم يكرر حكايتَين، لأنه لم يحل في مكانٍ واحدٍ مرتين" ؛ لذلك فإنَّ "أمكنة الحكاية الفيلمية أمكنة مجرَّدة، قد نعرفها ونهتدي إليها جغرافيًّا أو فيزيائيًّا، لكنها تتحوَّل إلى فضاءاتٍ، حيث تنتقل من درجة أولى في التدليل إلى درجة ثانية في الدلالة: التدليل قائم في الصياغة التقنية للصورة، أما الدلالة فمحكومة بوظائف تقدِّمها الفضاءات نفسها في منح مرسلة الفيلم قدرة التخييل على أساس من التوسيم: أصوات، موسيقى، أشياء، ألوان، إنارة، لباس، تعليق حدث" .
لكل مكانٍ سينماه
يسبق هذا الكتاب اقتباس من فيلم "ذا أولد دارك هاوس"، الذي صدر قبل أكثر من 90 عامًا، عن الرفقة الثلاثية (زوجان وصديقهما)، التي تضل طريقها، وتعلَق في الوحل، قبل أن تجد قصرًا غارقًا في الوحشة والعظمة الغابرة، تطلب مارجريت تحت وابل المطر وصوت الرعد من صديقهما السيد بِندرِل النظر في الخريطة، وهو بالمناسبة أكثرهم ظُرفًا ولا مبالاة، فيقول لها: من وجهة نظري، أعتقد أننا لسنا على الخريطة!
إنها جملة شديدة البلاغة والإيجاز في تبيين معنى المكان في القصة السينمائية، وفي تأكيد أن لكل مكانٍ سينماه الخاصة، النابعة من سلسلة من الظروف والسياقات.
إن هذه الرفقة الثلاثية في مكانٍ خطيرٍ ومجهولٍ إلى درجة أنه غير موجود على الخريطة، لكن، هذا المكان بالذات، دونًا عن ملايين الأماكن في العالم، هو السبب في إيجاد القصر الغامض، وبالتالي، السبب في وقوع أحداث الفيلم، فلا يهم، إذن، أين يكون البطل السينمائي، لا يهم إن كان عالقًا في الوحل، أو محلقًا في السماء، ذاهبًا إلى عمله، أو راقدًا في فراشه، لا يهم أصلًا إن كان في مكانٍ يريده، أو يرغب فيه، أو إن كان أصلًا في وجهة خاطئة من الأساس، إن الشيء الوحيد المهم هو أن يكون البطل في المكان الصحيح لتُصنع الأحداث، وليستمر الفيلم.