مقالات

«مذكرات مولع بالكتب» مقتطف من كتاب «مسرات الحياة البسيطة» للكاتب: هيرمان هسه

22 سبتمبر 2025
حدث ذلك في ربيع سنة 1838م.ثار الغضب في وجه مدير مكتبة «توبينجين» في اللحظة التي وقف فيها مساعد المكتبة إلى جواره، حاملًا...

حدث ذلك في ربيع سنة 1838م.

ثار الغضب في وجه مدير مكتبة «توبينجين» في اللحظة التي وقف فيها مساعد المكتبة إلى جواره، حاملًا بطاقة مشتريات الطالب «رايتينج»، ودفتر حساب الأخير مفتوح على المكتب.

دُوِّنت مشتريات الطالب رايتينج جميعها من الكتب الجميلة على مدار سبعة فصول دراسية بخط منمق وأرقام واضحة، وفي أول الحساب، لُوحِظ قيد مدفوعات لسداد ثمن الكتب المشتراة بين الحين والآخر، بعدها يُرى انقطاع عن سداد أي مدفوعات في خانة الدائن، وكان المجموع الختامي بعد خصم ما سُدِّد بالفعل يتجاوز بكثير 250 جيلدرًا، وكُتِب بالقلم الرصاص على حافة الورقة: «تاريخ الدفع مارس 1838م».

لكن اليوم كان السابع من أبريل بالفعل، وجدت رسالة ممهورة بتوقيع الطالب رايتينج تقول: «حضرة الموقر صاحب المكتبة، لقد قرأت تحذيرك للتو، وهو لا يخلو من نبرة قاسية!

هل تراني كلبًا؟ هل تعدُّني محتالًا؟ لا، أنا طالب محترم أدرس فقه اللغات، أنا شاب ذو شرف ومروءة، حتى وإن كنت معدمًا. بالمناسبة، ألا ترى أن وصف المعدن الخالي من الروح بأنه العصب الأساسي هو سبة في جبيني؟ حسنًا، سأدفع لك ما أنا مدين به، ولكن ليس قبل أن تتمكن من رؤية البرهان القاطع على حسن نواياي؛ لذا أقترح عليك أن تسترد الجزء الذي لم أعد أحتاج إليه من مكتبتي مقابل مبلغ مادي معقول، وعليه، أنتظر تشريفك بالحضور إلى منزلي غدًا بين الساعة الثانية والرابعة عصرًا، في منزلي الكائن في شارع نيكارهالدّه، رقم 8».

غلى الدم في عروق مدير المكتبة، وقرر إحالة الأمر إلى مُحضَر المحكمة لتحصيل الديون المستحقة على الطالب، لكن مساعده الذكي أقنعه بقبول اقتراح رايتينج، لقد قدَّر المساعد المسألة تقديرًا سليمًا لما رأى أن رايتينج سليل عائلة محترمة، وشاب نابغ ينبغي ألا يفرط فيه قدر الإمكان؛ لأنه سيتخرج في الجامعة بتقدير عالٍ، وربما يُكتَب له التألق وذيوع الصيت ليصبح عالمًا في فقه اللغات وكاتبًا بارعًا في غضون سنوات قليلة، ومن هنا استقر الرأي على استعادة الكتب المبيعة لرايتينج بأزهد سعر ممكن لتعويض الخسارة، وكُلِّف المساعد بتقدير قيمة الكتب والاتفاق على ما يلزم مع الطالب.

في غضون ذلك، جلس رايتينج في حجرته مكفهر الوجه، تطل نافذة غرفته على الشوارع الواسعة وسلاسل جبال الألب الخلابة التي بدأت تتألق فوق قممها تباشير فصل الربيع.

كان النهار صحوًا، والسماء زرقاء، والسحب المضيئة المخططة متألقة بألوان قوية عبر الهواء العليل الرائق، أما في الشارع فلم يكن يُسمَع إلا أصوات الأغاني المبتهجة، والأحاديث الصاخبة، وحركة العربات، وقدح حوافر الخيول المارة، وكل ذلك لأنه كان أول يوم مشمس من أيام شهر أبريل.

لم يتنبه رايتينج إلى شيء من كل هذا، ولم ينزعج كثيرًا من اتفاق مكتبة «فيتزجال»؛ إذ انهالت على رأسه تحذيرات مماثلة من جهات عدة بعد أن صار في مرمى سهام الدائنين، فشعر كأنه بعوضة عالقة في بيت العنكبوت، هذا ناهيك من القلق الذي يساوره بشأن امتحانات الفصل الدراسي التي تطرق الأبواب، ومن مطاردة الجهات الحكومية الوشيكة، ومن حدسه بوداعه الوشيك لمدينة توبينجين عما قريب، وهو ما آلمه، راح يدخن بغضب من غليونه الطويل، نصف جالس ونصف مستلقٍ فوق الأريكة المهترئة، مراقبًا بجبين مجعد تشكيلات سحب دخان الغليون المتصاعدة ببطء لتخرج من النافذة المفتوحة.

فوق جدار الغرفة المشرقة، وبين خطوط أنابيب المياه والمطبوعات الحجرية[1] المعلقة والبورتريهات، استقرت مكتبة ثرية عامرة، تحوي إلى جانب أمهات الكتب الكلاسيكية والأعمال المختصرة مجموعة متميزة لا يُستهان بها من الأعمال التاريخية والأدبية. كان رايتينج يتمتع بميول أدبية واضحة، وانخرط بقوة في الحياة الأدبية من خلال نشر المراجعات الأدبية حينًا، ونشر المقالات في المجلات الصغيرة حينًا آخر، أطلق زفرة ونهض من مقعده المريح، وجعل يتفحص مكتبته والغليون في يده اليسرى.

قرر الإبقاء على قسم أعمال فقه اللغة المقتصر على أمهات الكتب، وراح صاحبنا الطالب المسكين -والألم يعتصر قلبه- يسحب الكتاب تلو الآخر من رفوف المكتبة السفلى، كأنه ينزع بضعة من نفسه، فيُقلِّب صفحات كل كتاب، وفي نيته أن ينتزع الكتاب من يد صاحب الكتاب في اللحظة الأخيرة.

مرت سنوات الدراسة الثرية أمام عينيه، وتذكر كيف أنه جمع هذه المجموعة من المجلدات واحدًا وراء الآخر، وانتقل عقله في غضون تلك السنوات من طور حماسة الثعلب الساذجة إلى طور تكوين ملكة النقد المستقل للقارئ الذواقة.

كانت كومة من الأعمال المهملة مستقرة فوق الأرض في اللحظة التي فُتِح فيها الباب ودلف منه رجل أشقر مديد القامة، ووقف هنيهة يسخر من فوضى الغرفة، كان الزائر هو صديقه وزميله ثيوفيل براخفوجيل، الذي يعمل حاليًّا مدرسًا لأبناء أرملة أستاذ جامعي.

- مرحى يا رايتينج! أي تعويذة تؤديها الآن على نهر[2] ستيكس؟ يبدو أنك تريد حزم أمتعتك والرحيل مجددًا، أليس كذلك؟

بوجه متجهم، ترك الطالب الكتب وجذب صديقه من يده ناحية الأريكة، وراح يسب ويلعن وهو يخبره عن مسألة مديونية الكتب والاستغناء عن قسم منها.

هز المدرس رأسه بأسى، ونظر إلى المكتبة المدمرة، وانتابه هو الآخر شعور بالأسى عليها، ثم نهض ورفع كومتي كتب مربوطتين بشريط، وصاح:

- ماذا؟! نوفاليس أيضًا؟! هل أنت جاد في كلامك يا صاحبي؟ كتب نوفاليس؟!

- نعم، حتى نوفاليس، الرائي ذو الشعر الأجعد... للأسف نعم... وماذا عساني أن أفعل؟ كل كتاب أحتفظ به هو حمل زائد.

- مستحيل يا صديقي العزيز! كل شيء إلا نوفاليس، أردت أن أستعيره منك هذه الأيام.

- استعِره من مكتبة فيتزجال، لن أحتفظ بشيء... لن أحتفظ بشيء البتة. ليس لي من الأمر شيء، هذا خيار القدر.

- اسمع، خطرت ببالي فكرة... سأشتري الكتاب منك، لن يعطيك صاحب المكتبة، الذي لا يعرف كوعه من بوعه، شيئًا في المقابل، كم يساوي هذا الكتاب؟

- أنت صاحبي... سأهديك الكتاب.

- كُفَّ عن الهراء، أهذا وقت هدية؟ لنقل واحد تالر[3] «Taler»، سأعطيك جزءًا الآن، والبقية في يوم استلام الراتب!

- حسنًا، أعطني المال... ها هو المجلد الثاني.

اضطُرَّ براخفوجيل إلى اللحاق بموعد الدرس، فوضع المجلدين تحت إبطه وأسرع هابطًا درجات السلم الضيق المتهدم قاصدًا المدينة. عبر نافذة غرفته، أخذ رايتينج يتأمل صديقه ومجلدي نوفاليس والأفكار تنهب رأسه؛ إذ رأى مجموعة الكتب الجميلة برمتها تذروها الرياح.

وفي اليوم التالي، جاء مساعد صاحب المكتبة في الموعد المحدد، كان قد قلَّب المسألة على وجوهها، وثمَّن كل كتاب على حدة، ثم خصم مبلغًا ضئيلًا من المستحق على رايتينج، وهو ما وافق عليه الأخير على مضض، بعدها، جاء خادم صغير السن وحمَّل «الكنز الثمين» فوق عربة يدوية ودفعها بهدوء بعيدًا.

ليس من شك أن تأمل هذه القائمة من الكتب قادر على جعل قلوب هواة جمع الكتب الثمينة يخفق بشدة؛ فقد بيعت هذه الطبعات الأولى، التي لا تُقدَّر اليوم بثمن، مقابل ثمن زهيد لا يتجاوز ثلاثين أو أربعين كراوزرًا، بل ربما أرخص من ذلك.

غادر الطالب غرفته التي صارت طافحة بالدنس بعد زوال الكتب، وروحه ممتلئة غضبًا وحزنًا، وأخذ يطوف في الشوارع ساخطًا، ثم أنهى هذا اليوم الأسود بجرع بضع كؤوس بالثمن الذي قبضه مقابل بيع نوفاليس.


[1] تُسمَّى أيضًا الطباعة الليثوغرافية، وتعتمد في الأصل على عدم امتزاج الزيت والماء، تكون الطباعة من حجر (الحجر الجيري الليثوغرافي) أو لوح معدني بسطح أملس. (المترجم)

[2] نهر ستيكس هو نهر في الأساطير الإغريقية، وكان يُعَدُّ بوابة المرور إلى العالم السفلي. (المترجم)

[3] عملة معدنية من الفضة سُكَّت سنة 1518م، وكانت تُستخدَم في معظم مناطق أوروبا لفترة 400 سنة تقريبًا. (المترجم)