السماء لا تحابي أحدًا: ألم الوجود كما يرويه إريك ماريا ريمارك
بريندان إي بيرن
«ما هي الحرية؟»
«لا أعرف أيضًا. كل ما أعرفه أنها ليست تَهرُّبًا من المسؤولية ولا عَدمَ وجود هدف. التحدث عمَّا ليست عليه أسهل من وصف ما هي».
هذا الحوار يُلامس صميم رواية «السماء لا تحابي أحدًا» لإريك ماريا ريمارك، قصة حب محتومة تجري في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. بطلَها سائق سيارات سباق يُدعى «كليرفي»، وشابة تُدعى «ليليان دونكيرك»، يسعى كُلٌ منهما للتحرر من إحساسه بانهيار الأحلام والأفكار حتمًا بفعل الزمن والموت.
الزمن والموت حقيقتان قاسيتان بالنسبة لهما. هو يعيش من سباق إلى آخر، واعِدًا بأن مهنته كسائق تنتهي، وأن مصيره إما شيخوخة طويلة بلا معنى في طي النسيان، أو موت مروّع في حادث. هي تموت بالسلّ، وخياراتها محدودة: حياة قصيرة مُكثّفة بكل بهائها، أو سنوات من الحَبس في مصحّة سويسرية نائية.
كِلاهما يحمل ندوب الحرب: هو كأسير حرب، وهي كهاربة مرعوبة من النازيين. هذه التجارب صبغت رؤيتهما للحياة. بما عرفاه عن قدرة الإنسان على الشرّ، وعن عبثية الموت العشوائية، باتا يريان طقوس الحياة الحديثة فارغة، بلا معنى. ومع ذلك، يتوقان إلى معنى، إلى جوهر، إلى حرية من إحساسهما الحتمي بالزوال والفوضى. يتوقان إلى الحياة، إلى البراءة، إلى زمن لم يكونا يعرفان فيه ما يعرفانه، ولم يشعرا بما يشعران به. يخافان الموت، لكنهما أيضًا يريان الحياة بلا أهمية.
الرواية تحكي محاولتهما الهروب من السأم، وسعيهما اليائس لإيجاد معنى عبر أشياء يرونها هم أنفسهم بلا معنى؛ إنها قصة محاولتهما – الفاشلة في النهاية – للعودة من صحراء الاغتراب إلى واحة المعنى.
لا يسعنا إلا أن نرى حياة ريمارك نفسها تنعكس في هذه الرواية – كما تنعكس في كل أعماله. روايته الأولى الأشهر «لا جديد على الجبهة الغربية» (1929) وتوابعها «الطريق إلى العودة» و«رفاق السلاح»، تصوّر اغتراب التشوّه الذي عاناه الشباب العائدون من فظائع الحرب العالمية الأولى. كانت تجربتهم أقسى لأنهم التحقوا بالجيش عام 1916 – أي أنهم كانوا أصغر من أن يلتحقوا عند بدء الحرب، فلم تكن لهم وظائف أو عائلات أو مسارات مهنية تُرسي أقدامهم في عالم ما قبل الحرب ويعودون إليها إذا نجوا. بالمقابل، كانوا كُفئًا كفاية لتُحطّم الحرب كل أوهامهم وسذاجتهم، وليزعزع إيمانهم بما كان الكبار يرونه مُسلّمات. لذا، عند عودتهم، لم يجدوا شيئًا: لا آمال، ولا أحلام، ولا مكان ينتمون إليه. فقط سخرية، وحزن، وغضب، وشعور بالذنب لأنهم نجوا من حرب أودت بحياة أصدقائهم، وبالعالم الذي توقعوا أن يكبروا فيه.
جزء من صعوبة المراهقة هو قدرتنا لأول مرة على فحص العالم نقديًا، مع افتقادنا الخبرة لمواجهة صدمة اكتشافاتنا. ريمارك وأقرانه عاشوا هذه الصدمة مضاعفة: صدمة ليست من الحياة، بل من الموت الجماعي. فاجأتهم «الأسئلة الكبرى» عن الوجود دون أن يُمهَلوا ليحددوا هوياتهم أولًا، أو يرسوا أساسًا يُجيبون منها عن تلك الأسئلة.
نتج عن هذا اغترابٌ – ليس فراغًا فقط، بل شعور بالوحدة والعَدمية – لازم ريمارك طوال حياته. بعد الحرب، عانى الفقر وعمل مدرسًا، وبائعًا لحُلي الجنازات (كما في روايته «المسلة السوداء»)، وناقدًا مسرحيًا، وصحفيًا رياضيًا. حين نُشرت «لا جديد على الجبهة الغربية» عام 1929، نال الشهرة والثروة – لكن ليس السلام. صعود النازية في الثلاثينيات جعله «كاتبًا هزيمويًا»، فنُفي إلى سويسرا أولًا، ثم الولايات المتحدة. تعرضت أخته لموت مروع بسبب صلته بها، وضاعت حياته الشخصية في تيه من الإفراط الواعي في الملذات والكحول، وعلاقات عاطفية مدمرة.
يظهر شعور ريمارك بالانْتِزاع من الجذور في روايات «المنفيين»: «حطام»، «قوس النصر»، «ليلة لشبونة». كل اليقينيات القديمة دُمِّرت، ولم يَحل مكانها سوى الحزن على ما زال، وأمل غامض غير مُرضٍ لما قد يأتي. تشعر بوضوح أن منفيي ما بين الحربين أدركوا أنهم محكوم عليهم: ما كانوا عليه، أو ما كان يمكن أن يكونوا، جرفته الحرب وفوضى ما بعدها؛ وأحسوا بالحريق القادم (الحرب العالمية الثانية) وعرفوا أن تأثيره سيفوق «الحرب العظمى». وقت ما بين الحربين كان – في أحسن الأحوال – هدنة قصيرة.
وهذا الانطباع يتجسد في حياة ريمارك نفسه. رغم عيشه في أماكن «غريبة» – مونت كارلو، باريس، ميلانو، نيويورك – لم يجد شعورًا بالبيت إلا متأخرًا في «بورتو رونكو» بسويسرا. نفيه القسري من ألمانيا، وعدم قدرته على العودة بعد الحرب بسبب اغترابه، عمّقا شعوره بالانْتِزاع. كذلك، رغم علاقاته بأجمل نساء عصره – دولوريس ديل ريو، لوبي فيليز، مورين أوستولان، لويز راينر، مارلين ديتريش، جريتا جاربو – كانت هذه العلاقات غير مُرضية وعاصفة، قائمة على التطلع العاطفي والاتهامات المتبادلة. زواجه الأول شابَه خيانة وغيرة، ولم يجد الاستقرار إلا متأخرًا في زواجه الثاني من الممثلة بوليت جودار. وحين بدت حياته تكتسب عمقًا ومعنى، نخر المرض جسمه حتى الموت.
يرى كثيرون أن أعمال ريمارك كئيبة ومتشائمة. لكن قراءة متأنية تكشف تيارًا خفيًا من البطولة والأمل؛ فالنضال نفسه ضد اليأس والعَبَثية، بدل الاستسلام لللامبالاة، هو بذاته سبب للاحتفاء. «ألم الوجود» (Weltschmerz) قد يكون موضوع ريمارك، لكن جمال الوجود المُروّع حاضر أيضًا. هناك عظمة وسط الحزن، لمحات من السمو الذي يمكن للروح البشرية بلوغه – رغم كل شيء.
يمكنكم طلب الرواية من هنا