الوالدتان وحكم سليمان
في القصة التوراتية المعروفة، تذهب والدتان إلى الملك سليمان للحُكم فيمن منهما هي الأمُّ الفعلية لطفلٍ حديث الولادة تدَّعي كلٌّ منهما أنَّه ابنها.
لا يمكن التغاضي عن الطابع الغريب الواضح لهاتين الشخصيتَين: عاهرتان وصديقتان تعيشان في المنزل نفسه وأنجبتا طفلَين في وقتٍ واحد، وتطالب كلتاهما بالحقِّ في أن تكون أمًّا للطفل الذي لا يزال على قيد الحياة، وتتَّهم كلٌّ منهما الأخرى بخنق الطفل الآخر في الليل والفشل في منحه الرعاية الكافية، ثمَّ استبداله ليكون بدلًا منه الطفل الذي لا يزال على قيد الحياة. في الواقع، تبدو المرأتان كأنَّهما شخصيتان غير واضحتَين؛ نوع من جسد واحد برأسَين. ومن الواضح أن هاتَين الوالدتَين في المرآة، هما أمٌّ واحدة، أو أنَّهما، بالأحرى، تشيران إلى البعد المتناقض للأمومة في حدِّ ذاتها؛ هذا هو اقتراحي في المقاربة.
ليس من قبيل الصدفة أنَّ في الاتهامات المتبادلة بينهما ثمَّة إفراطٌ في الحضور الأمومي: فقد تكون إحداهما قد «اضطجعت» على طفلها وخنقته. هذا يدلُّ على أن مبالغة الأمِّ في حماية ابنها قد تكون سببًا في مقتله. إنَّه درسٌ قاسٍ نجد صداه في الأناجيل، في «المعجزات» الكثيرة عن إحياء الموتى؛ إذ يحيي المسيحُ الأبناء والبنات الذين قتلتهم روابط عائلية خانقة. لقد تصرَّف «كالسيف»، لكي يفصل الابن عن الأمِّ مثلما قال بنفسه «ما جئتُ لألقي السلام إلا بالسيف. لأنِّي جئتُ لأفصل الابن عن الأب، والابنة عن الأمِّ»، وحرَّر عملية البنوَّة من كلِّ أساسٍ بيولوجيٍ طبيعي «من هي أمّي ومن هم إخوتي؟»، كما حرَّر الرغبة الذاتية من توقعات الآخرين وحرَّر الحياة من سياج الأسرة المغلق لتكون بالفعل حياةً زاخرةً بالعيش والعطاء.
ولذلك تطالب المرأتان بحيازة الطفل الذي لا يزال على قيد الحياة، رافضتين تحمُّل مسؤولية وفاة الطفل الآخر. تدَّعي كلُّ واحدةٍ منهما أن ابنها «حيّ» وابن الأخرى «ميِّت». لكن من الأمُّ الحقيقية؟ في القصة التوراتية، تواجه الوالدتان إحداهما الأخرى كما لو أصابهما العمى، فهما غير قادرتين على إدراك أن إحداهما هي مرآة تعكس الأخرى. فمن ناحية، هناك الأمُّ التي تستخدم طفلها كما لو كان شيئًا؛ الأمّ الجشعة التي لا ترغب في التخلِّي عن أيِّ شيء، أو خسارة أيِّ شيء، وإظهار الأمومة كممارسةٍ للملكية. ومن ناحية أخرى هناك الأمُّ المعطاءة، تلك التي تعرف كيف ترضى بغيابه وخسرانه، من أجل أن تحافظ على حياته.
هاتان الوالدتان ليستا في الحقيقة أمَّين، بل هما صورتان داخليتان متناظرتان لتجربة الأمومة نفسها، والتي تتشكَّل تحديدًا من التأرجح بين متعة الحصول على الطفل والاستيلاء عليه وبين انفصاله، وخسارته، والاعتراف به كحياةٍ أخرى، كآخر غير قابل للاختزال. هما صورتان عن دافع الموت ودافع الحياة؛ دافع امتلاك الحياة بإماتتها ودافع التخلِّي عن الحياة من أجل البقاء. تدخُّل اسم الآب وحده -المتجسِّد في دينونة سليمان وسيفه- هو القادر هنا على تحرير الطفل من قبضة الأمِّ المميتة.
في عالم هاتَين المرأتَين تغيب أيُّ إشارةٍ إلى طرفٍ ثالث. تعيش المرأتان، لكونهما عاهرتَين، على نَحوٍ مستقلٍّ عن الزوج أو الأب، وتمتلكان الملكية الحصرية لكينونتهما. إن الإشارة التوراتية هنا دقيقة من الناحية التحليلية النفسية: حكم طرف ثالث -اسم الأب- ضروري لكسر القدرة المطلقة الخيالية للأمِّ، لدفعها إلى الاعتراف بالحرية الجذرية للطفل، ومن ثَمَّ إلزامها بالاستحواذ على ما ولدته بنفسها. إنها السمعة التي أحاطت بالملك سليمان، الذي يعرف كيف يميِّز الخير من الشرِّ، ويعرف كيف يفرِّق بين الحقِّ والأكاذيب، ويعرف كيف يميِّز بين الحياة والموت.
لقد استطاع، بحيلةٍ جريئةٍ أن يفضح الأمَّ الكاذبة: طلب أن يأتوا إليه بسيفٍ ليشطر الطفل إلى قسمَين، ويعطي لكلِّ امرأة قسمًا: «خذوا هذا السيف. [...] اقطعوا الطفل إلى نصفَين وأعطوا النصف للمرأة والنصف الآخر للمرأة الأخرى. عندما تواجه فقط احتمال الموت الحقيقي للطفل، تستسلم إحدى المرأتَين، معلنةً استعدادها للتخلِّي عن ملكية الطفل حفاظًا على حياته. إنها على استعداد لخسارة ابنها طالما أن ذلك يضمن له أن يعيش حياته. أليس هذا هو الفعل الذي يحدِّد بلا شكٍّ هوية الأمِّ الحقيقية؟ إنها فقط تلك التي تعرف كيف تتخلَّى عمن أنجبته هي التي تستطيع أن تكون أمًّا حقيقية. هذا في الواقع هو الاختبار الأكبر الذي ينتظر كلّ أمٍّ: ترك الطفل بعد ولادته ورعايته، ومنحه الحرية كتجسيدٍ لحبِّها له.