شؤون عاطفية: الروايةُ الإيروتيكية الوحيدة لـ «بوتزاتي»
في روايته الرقيقة والمفعمة بالتفاصيل النفسية «شؤون عاطفية»، يصوّر العملاق الأدبي الإيطالي دينو بوتزاتي حكاية حب أو ربما وهم حب، من خلال شخصية أنطونيو دوريغو، المهندس المعماري الناجح في منتصف العمر الذي يعيش في ميلانو ويشعر بالوحدة والخوف من النساء. حين يلتقي براقصة غامضة تجمع بين عروض الباليه والتعري، ينقلب عالمه رأساً على عقب. يصبح أسير هوسه بها، رغم تقلبها وكذبها واستخدامها له، ومع ذلك يزداد تعلّقاً بها. لكن من هي هذه الراقصة حقاً؟ سؤال يبقى معلقاً في هذه الرواية التي تتأرجح بين العاطفة والوهم، بين الحب والخداع.
مقتطف من الرواية، الصادرة عن منشورات حياة، بترجمة جوهر عبد المولى:
يعمل دوريغو وسْطَ المدينة. في ذلك الوقت من اليوم، في الطابق السفلي والطابق العلوي وفي كل مكان حوله في ذلك المبنى، انكبَّ الرجال -مثله- على عملهم، كانوا يعملون في المبنى المقابل، وفي ذلك المنزل القديم جدًّا في شارع «فوبا» الذي كان مرئيًّا بعض الشيء من خلال فجوة بين المباني المحيطة، وكانوا يعملون أيضًا في المباني البعيدة التي لم يستطع رؤيتها، هناك في الأفق البعيد، وراء الضباب الدخاني، على امتداد مئات الأميال.. أوراقٌ، وسجلّات، واستمارات، ومكالمات هاتفية، وإيصالات، وأيادٍ منهمكة في العمل بأقلام الحبر، والأدوات، وأقلام الرصاص. يعملون بجدٍّ؛ يُثَبِّتون المقابس ويشدُّون البراغي، يُجرُون العمليات الحسابية، يُجهِّزون أدواتهم، يلحمون الحديد، يُعدُّون كشوف الحساب، يحمِّضون الأفلام؛ يعملون كسرب لا نهاية له من النمل المحموم، عازمين على تحقيق رفاهيتهم. ومع ذلك، كانت أفكارُهم في كل مكان -آه، ضحك دوريغو- على امتداد كل تلك الأميال.. تشبه أفكارَه؛ أفكارًا فاحشة رائعة، يُحرِّضها ذلك الصوت الغامض الذي ينادي بالحفاظ على الجنس البشري، وتتحول إلى رذائل غريبة متأجِّجة، لكن لماذا لا يجرؤ أحد على التحدِّث عنها؟ يفكِّرون فيها على الدوام، فيها فحسب، يتخيَّلون فَمَهَا، تلك الشفاه الفريدة من نوعها، والعضلات المشدودة (هل تذكر؟)، عضلاتٌ ناعمة مطواعة، والانحناءة التي لا مثيل لها، والعمق، والدفء، والرطوبة، والاستسلام، والهبوط إلى هاوية مُتَّقدة. لكنّ الصحف كانت تتناول تعنُّت الاتحاد السوفييتي، والأسئلة التي طرحها مجلس النواب حول «ألتو أديجي» Alto Adige، والطمأنة التي قدَّمها «نيني» بشأن استقلالية الحزب الإيطالي الشيوعي PSI، والحريق الذي دبَّ في دار سينما «فِياما»، والأزمة التي حلّت بمجلس صقلية الإقليمي. يا لهذا العالم المضحك!
أشعل سيجارته الخامسة ثمّ نهض. شعر بإثارة مميزة لا يشعر بها إلّا رجلٌ متخوِّف وحساس بطبيعته. («أنا تونينو؛ صباح الخير يا سينيو...»، «آه! لقد مضى وقتٌ طويل…»).. لكنه كان على ما يرام، ولم يشتَكِ أيّ عضو من أعضاء جسده؛ شعر بالهدوء التام والقوة والسَّكينة. كان ذلك الصباح مثل عديد من الأصباح الأخرى. هناك في الخارج، كانت السماء ما تزال رماديّةً تبعث على الضجر، لكنه كان بصحة جيدة.
لم يشعر أنَّ الانتظار خلال الساعات القليلة التالية كان صعبًا عليه، كما لم تتملَّكه مشاعر الخوف بسبب الأيّام القادمة، أو حتى المستقبل الواسع. ظلَّ الهاتف صامتًا. شعر دوريغو بالطمأنينة، وسارت الأمور كما يجب. ارتدى بدلةً رمادية، وقميصًا أبيض، وربطة عنق أرجوانية اللون غير مقلّمة، وجوارب حمراء، وحذاءً أسود، كما لو…
كما لو أنَّ كلَّ شيء سيبقى على حاله حتى ذلك الحين، حتى ذلك اليوم من فبراير -التاسع من فبراير على وجه التحديد- الذي يصادف يوم ثلاثاء. ظروف آمنة ومناسبة تصبُّ في مصلحة رجل برجوازيٍّ في أوج شبابه؛ رجل ذكيّ، فاسد، غني، ناجح.
احصل على الرواية من هنا.