اشتهر الكاتب النرويجي كنوت هامسون (1859–1952) كواحدٍ من عمالقة الأدب العالمي، بفضل رواياته التي خلَّدت اسمه، مثل "الجوع" و"بان" و"واخضرّت الأرض" التي نال عنها جائزة نوبل عام 1920. لكن مسيرته الأدبية لم تكن محصورةً في عالم الرواية فحسب، بل شهدت تجاربَ متنوّعةً في كتابة المسرحيات والشعر والقصص القصيرة، تكشف عن مسارٍ إبداعيٍ مليءٍ بالمغامرة والبحث عن الهويّة الأدبية.
المسرحيات: إشراقةٌ عابرةٌ ونهايةٌ مُرّة
خلال العقدين اللذين سبقا حصوله على نوبل، كتب هامسون أربع مسرحياتٍ ومسرحيةً شعرية، نالت في بداياتها استحسان الجمهور والنقّاد. بل إن المخرج الروسي الشهير ستانيسلافسكي اعتبر إنتاجَه لمسرحية "لعبة الحياة" عام 1905 نقطة تحوّلٍ في مسيرته الفنية. لكنّ هذا النجاح المبكر لم يستمر، إذ سرعان ما طواها النسيان، حتى أن هامسون نفسه وصف أعماله المسرحية بالفشل، ليتوقف عن كتابتها نهائياً بعد محاولة أخيرة عام 1910. يطرح هذا التحوّل تساؤلاً عن سبب تراجع بريق مسرحياته: هل يعود إلى تحوُّل اهتمامه نحو الرواية، أم إلى محدودية الرؤية المسرحية في أعماله مقارنةً بعمقها السردي؟
الشعر: إلهامٌ لجيلٍ ثم انقطاع
لم تكن مغامرة هامسون مع الشعر أقل إثارة، فديوانه "الجوقة البرية" (1904) ألهم جيلاً من الشعراء النرويجيين، مثل هيرمان ويلدنڤي، لكنه قرر التخلي عن الشعر أيضاً، كأنما كان يبحث عن شكلٍ أدبيٍّ أكثر اتساقاً مع صوتِه الداخلي. ربما يكمن السبب في طبيعة الشعر الذي يتطلب جرعةً عاطفيةً مكثفةً، بينما مال هامسون لاحقاً إلى السرد الواقعي الساخر، الذي يُعبِّر عن رؤيته للحياة بتعقيداتها.
القصص القصيرة: مختبرُ الأفكار والأنماط السردية
تُعتبر مجموعاته القصصية، مثل "قيلولة" و"الأغصان الخشبية"، الأكثرَ إثارةً للاهتمام في رحلته التجريبية. فهي لا تقدم لمحاتٍ سيريةً غامضةً تُمازج الواقع بالخيال فحسب، بل تُشكِّل أيضاً نواةً لروايته الأكثر نضجاً. ففي قصة "حزنٌ دفين"، يظهر راوي "الجوع" بملامحَ أكثر وضوحاً، بينما تُقدِّم "جزيرة الرجل الأزرق" شخصيةً (مارسيليوس) تتفوق في واقعيتها على ملازم "غلان" من رواية "بان"، مع الحفاظ على هوس هامسون بالحب المستحيل.
الأهم أن هذه القصص تكشف تحوُّلاً جذرياً في أسلوبه: من الرومانسية العاطفية في أعماله المبكرة إلى السخرية والواقعية المُرّة في رواياته اللاحقة، مثل "أطفال العصر". ففي قصة "جزيرة الرجل الأزرق"، يلمس القارئ هذا التحوُّلَ مع تقلُّب المشاهد، وكأن كل صفحةٍ تُعلن ولادةَ كاتبٍ جديد.
أمريكا في قصصه: صدى التجربة الشخصية
تنعكس سنوات هامسون في أمريكا (عقد 1880) بوضوح في قصص مثل "زاكيوس" و"انتصار امرأة"، حيث يستحضر تفاصيلَ حياتِه كعاملٍ مزرعةٍ ومحصل تذاكر. هذه القصص، رغم افتقار بعضها للحبكة التقليدية، تقدم تصويراً انطباعياً قوياً لحيوات المهاجرين، مع قبولٍ غيرِ حُكمي للسلوك البشري، حتى في أشكاله المتطرفة. فشخصية المقامر "إيڤانز" في "في سهوب القمح"، بلامبالاته الرواقية، تُجسِّد هذا الانفتاحَ على تناقضات الإنسان.
السخرية من الذات: حين يضحك هامسون من هامسون
في قصة "محاضرة مهمة"، يسخر الكاتب من طموحاته الأدبية وادّعاءاته، مُقدِّماً نقداً ذاتياً لاذعاً سبقَ رواية "الجوع". هذه القدرة على الضحك من الذات تتعارض مع الصورة النمطية للشخصية النرويجية الجادّة، التي روّجها كتابٌ مثل إبسن وفنّانون مثل مونش. بل إن قصصاً مثل "ثورةٌ في الشوارع" تنتقد الشغفَ السياسي بذكاء، رغم أن هامسون نفسه سقط لاحقاً في فخ الدعاية النازية، ما أثّر سلباً على تقييم إرثه الأدبي.
أسلوبٌ سرديٌ ثوري: كسر قواعد الزمن والتركيب
لم تكن القصص مجرد حقلٍ لتجربة المواضيع، بل أيضاً للشكل السردي. فهامسون استخدم جُملاً متدفقةً تخلط الأزمنةَ فجأةً، وتعتمد على الفواصل بدلاً من النقاط، وكأنه يحاور القارئ مباشرةً. هذا الأسلوبُ "التحدُّثي" كان ثورياً في زمانه، وأثَّر في تيارات الأدب الحديث، كما أشار إسحاق باشفيس زنغر.
نهاية المرحلة التجريبية: التحوُّل إلى الرواية
بعد عام 1905، توقف هامسون عن كتابة القصص القصيرة، مكرساً نفسه للرواية. ربما رأى أن الرواية تُتيح له مساحةً أوسعَ لبناء عوالمه السردية المعقدة، أو أن تجاربه السابقة مهَّدت له الطريقَ لاكتشاف صوتِه الناضج. رغم ذلك، تظلُّ قصصه شاهداً على مرحلةٍ حاسمةٍ في مسيرته، حيث كان يبحث عن ذاته بين الأنماط الأدبية، قبل أن يجد ملاذَه الأخير في الرواية.
ختاماً، تكشف هذه القصص عن كاتبٍ لم يكن مجرد روائيٍ عظيم، بل فنانٌ تجريبيٌ جرؤ على كسر التقاليد، مُعيداً تشكيل حدود السرد الحديث. ورغم أن التاريخ قد يُذكره لدعمه السياسات العنيفة، إلا أن إبداعه الأدبي يظلُّ شاهداً على موهبةٍ استثنائيةٍ، لم تكتفِ بتحويل الألم إلى فن، بل حوّلت التجربةَ الإنسانيةَ إلى مرآةٍ تعكسُ تناقضاتِ الوجود.
لشراء المجموعة القصصية "رجل وضيع للغاية" اضغط هنا