نداء الحياة: قصة من مجموعة «رجل وضيع» لكنوت هامسون
هناك، بالقرب من الميناء الداخلي في كوبنهاغن، يوجد شارع يسمى "ڤيسترڤويد"، وهو عبارة عن جادةٍ جديدة موحشة. فيها القليل من المنازل ومصابيح الغاز، وتكاد تخلو من الناس تقريبًا، ورغم أنّ فصل الصيف قد حلّ علينا، لا يذهب إلّا حفنة من الناس لكي يتنزهّوا هناك.
لكن، في الليلة الماضية، حدث معي شيء في ذلك الشارع.
كنت أتجوّل فيه جيئة وذهابًا عندما رأيت سيّدة تمشي نحوي مباشرةً. لم يكن هناك أيّ أحد آخر، ومع أنّ أضواء الغاز كانت مضاءةً إلّا أنّ الظلمة طغت على الشارع ولم أستطع رؤية وجه تلك السيدة. "حسنًا، لا بدّ أنها عابرة سبيل في هذا الليل فحسب"، قلت في نفسي وأنا أمرّ بالقرب منها.
وصلتُ إلى نهاية الشارع ثمّ عدت إلى الوراء مجدّدًا. استدارت السيدة أيضًا وتقابلنا مرة أخرى. لا بدّ أنّها تنتظر شخصًا ما، فأردت أن أعرف هويته. أمشي بجانبها مرة أخرى.
تواجهنا للمرة الثالثة، فلمست قبعتي دليل الاحترام وتحدّثت إليها.
"مساء الخير. هل تنتظرين أحدهم؟"
بدا عليها الذهول. "كلا ... في الواقع، نعم، أنا أنتظر شخصًا ما".
"هل تمانعين إذا بقيت بصحبتك حتّى وصول ذلك الشخص؟".
"كلّا، لا مانع لديّ. شكرًا لك. حقيقةً، لا أنتظر أيّ أحد. جئت إلى هنا لكي أمشي فحسب".
كان المكان هادئًا جدًّا.
رحنا نمشي جنبًا إلى جنب. لم نتحدث عن أي شيء مهم، ومددت ذراعي لها.
"كلّا، لا داعي لذلك. شكرًا لك"، قالت لي وهي تهزّ رأسها.
لم يكن المشي هناك أمرًا ممتعًا، كما لم أستطع رؤيتها وسط الظلام الحالك. أشعلتُ عود ثقاب ونظرتُ إلى ساعتي، ثمّ وضعته أمام وجهها لكي أتمكّن من رؤيتها أيضًا.
كانت ترتجف من شدّة البرد. فانتهزتُ الفرصة وقلت:
"يبدو أنّك تتجمّدين بردًا. هل تريدين الذهاب إلى أيِّ مكانٍ لكي نحتسي مشروبًا ما؟ ما رأيك بمتنزّه تيڤولي؟ أم تفضّلين المتنزّه الوطني؟".
"لا يمكنني الذهاب إلى أيّ مكان في الوقت الحالي. يمكنك أن ترى ذلك بنفسك".
ولاحظت لأول مرة أنها كانت ترتدي طرحةً سوداء طويلة.
"أعتذر. لم أرَك جيّدًا بسبب الظلام". وتقبّلتْ اعتذاري على نحوٍ أقنعني بأنّها لم تكن من المتجوّلين العاديّين الذين نراهم في الشارع.
"أمسكي بذراعي"، قلت لها مرة أخرى، "ستشعرين بالدفء قليلًا". فأخذت بذراعي، وتجوّلنا هناك عدة مرات، ذهابًا وإيابًا.
"كم الساعة الآن؟"
قلت لها: "إنها العاشرة. أين تعيشين؟".
"على طريق غامله كونغيڤاي".
أوقفتها وقلت لها:
"اسمحي لي أن أمشي معك إلى باب منزلك".
"لا أعتقد أنّه يمكنك فعل ذلك... أنت تعيش في شارع بريدَغاده، أليس كذلك؟"
"كيف عرفت ذلك؟" سألتها مدهوشًا.
فأجابت: "أنا أعرفك".
ساد الصمت لبرهة. ثم سرنا متشابكي الأذرع تحت أنوار الشوارع. كانت تمشي بسرعة، فتطايرت طرحتها الطويلة خلفها كما يتطاير الشعر في الهواء.
"من الأفضل أن نسرع"، قالت السيدة.
عندما وصلنا إلى باب المبنى الذي تقطن فيه في غامله كونغيڤاي، التفتتْ نحوي ونظرت إليّ. شعرتُ أنّها تشكّرتني بعيونها على مرافقتي لها. فتحتُ لها الباب، ودخلتْ أمامي ببطء. دفعتُ الباب بكتفي برفق وتبعتها. بمجرّد أن أصبحتُ في الداخل أمسكتْ بيدي من دون أن يقول أيّ منّا كلمةً واحدة.
صعدنا الدرج متّجهين إلى الطابق الثاني. فتحتْ باب شقّتها، ثمّ فتحتْ بابًا آخر بعده، وأمسكت بيدي وقادتني إلى الداخل. بدا لي أنّنا دخلنا غرفة للرسم. سمعت أصوات عقارب الساعة تدق على الحائط. ما إن دخلنا حتى توقفت السيدة لبرهة، ثمّ، على حين غرة، عانقتني وقّبلتني بعنف على شفتي.
ثم قالت: "اجلس هنا، على الأريكة. سأشعل الضوء".
شعرتُ بدهشةٍ ممزوجة بالفضول. نظرتُ حولي، متفحّصًا غرفة الرسم الكبيرة. كان أثاثها مميّزًا، ولها أبواب تقود إلى الغرف الأخرى في المنزل.
وجدتُ صعوبةً بالغة في فهم طبيعة تلك السيدة. قلتُ لها:
"يا له من منزلٍ جميل. هل تعيشين هنا؟"
أجابت: "نعم. هذا منزلي".
"منزلك؟ تقصدين أنّك تعيشين هنا وأنّ والدك هو صاحب المنزل؟" فضحكت وأجابت:
"أوه، كلا. أنا امرأةٌ عجوز!" خلعت معطفها وطرحتها وقالت: "انظر بنفسك!" عانقتني مجددًّا، فجأةً أيضًا، مظهرةً رغبةً جامحةً لا يمكن السيطرة عليها.
كانت تبلغ من العمر 22 أو 23 عامًا على ما أعتقد. ارتدت خاتمًا في يدها اليمنى، لذا اعتقدت أنّها حقًّا امرأة متزوجة. هل كانت فتاةً حسناء؟ كلا، فقد ملأ النمش وجهها ولم يكن لديها حواجب تقريبًا. لكنّ حيويّتها أذهلتني، وكان فمها جميلًا بشكل غريب جدًّا.
أردت أن أسألها عن اسمها، وأن أستفسر عن مكان زوجها، بفرض أنّها كانت متزوجة. أردت أن أعرف هوية صاحب ذلك المنزل الذي كنت فيه. لكن في كل مرة فتحت فمي لكي أتكلم كانت تعانقني وتمنعني من طرح الأسئلة.
قالت لي: "اسمي إلين. هل ترغب بشرب أيّ شيء؟ يمكنني إحضار أيّ مشروب بمجرّد رنّ هذا الجرس. لكن اذهب إلى غرفة النوم أوّلًا وانتظرني هناك قليلًا". ذهبتُ إلى غرفة النوم. كانت الأضواء في غرفة الرسم تنيرها جزئيًّا، ورأيت فيها سريرين اثنين.
رنّت إلين الجرس، فحضرت خادمةٌ بيدها زجاجة نبيذ ثم غادرت. بعد ذلك بوقت قصير تبعتني إلين إلى غرفة النوم، لكنّها ظلّت واقفةً عند الباب قليلًا. خطوت خطوة نحوها، وتقدّمت هي باتجاهي متأوّهةً بصوت منخفض...
كان هذا ما حدث الليلة الماضية...
حسنًا، ماذا حدث بعد ذلك؟ تحلَّ بالصبر. سأخبرك.
عندما استيقظتُ في الصباح التالي، كانت شمس النهار قد شقت طريقها من خلف الستارة لتنير غرفة النوم. وجدتُ إلين مستيقظة أيضًا. تنهّدتْ وابتسمت لي. كانت ذراعاها بيضاوين مخمليّتين، وثديُها منتفخًا. همستُ في أذنها شيئًا ما، فأطبقتْ فمها على فمي بصمت وحنان؛ أصبح ضوء النهار أكثر إشراقًا.
نهضتُ من الفراش بعد ساعتين، ونهضت إلين لترتدي ملابسها وحذاءها. في هذه اللحظة بالذات، حدث شيء غير متوقّع، شيءٌ يشبه الكابوس؛ يرتعش جسدي حتّى هذا اليوم كلّما تذكّرت ذلك الموقف. كنت واقفًا بجانب حوض الغسيل. في غضون ذلك، توجّهت إلين إلى الغرفة المجاورة، وعندما فتحت الباب استدرتُ ونظرت إلى داخل تلك الغرفة، وإذ بتيّارٍ من الهواء البارد يسرع نحوي قادمًا من النوافذ المفتوحة؛ في وسط الغرفة، رأيت طاولة عليها جثةٌ شاحبةٌ داخل كفنٍ مفتوح. كانت لرجلٍ رماديّ اللحية. تحت الغطاء الأبيض، برزت ركبتاه النحيلتان مثل قبضتين غاضبتين، وكان وجهه المصفرّ مخيفًا جدًّا. رأيت كل هذا بوضوح تام، في وضح النهار. استدرت بعيدًا ولم أقل شيئًا.
عندما عادت إلين من الغرفة، كنتُ قد ارتديت ملابسي استعدادًا للمغادرة. عانقتني مجدّدًا لكنّي لم أتمكّن من التفاعل معها كما يجب. ارتدتْ ملابسها هي أيضًا لكي تغادر المنزل قائلة إنّها سترافقني حتى باب المبنى، ونزلنا سويًّا. ما زلت صامتًا، طبعًا. في مدخل البناء، وقفتْ مستندةً إلى الحائط خشيةَ أن يراها أحد ثمّ همست:
"وداعًا".
فقلت لها مجرّبًا حظي: "أراكِ غدًا؟"
"كلّا، ليس غداً".
"لماذا؟"
"لا تقلق، يا حبيبي. عليَّ أن أذهب إلى جنازةِ أحد أقاربي غدًا. هذا هو السبب".
"ماذا عن بعد غدٍ؟"
"نعم، بعد غدٍ إذن، على أن نلتقي هنا في المدخل. وداعًا".
ومشيتُ في طريقي ...
من كانت هذه السيدة؟ ومن كان ذلك الرجل في الكفن؟ يا للمنظر الفكاهي الغريب لركبتيه الناتئتين وزوايا فمه المتدلية! إنها تتوقّع رؤيتي مرّة أخرى بعد غد. هل يجب أن أذهب؟
توجّهت مباشرة إلى مقهى بيرنينا، وطلبت من صاحبِه رؤية دليل العناوين، ثم رحت أبحث عن رقم منزلها على طريق غامله كونغيڤاي. سرعان ما وجدت الاسم. جيّد جدًّا. انتظرتُ قليلًا أيضًا حتّى موعد وصول الصحف الصباحية، وتصفّحتها بحثًا عن المواليد والوفيات: وإذ بي أجد الخبر الذي نشرتْهُ إلين، على رأس القائمة بالخط العريض: "توفّي زوجي اليوم عن عمرٍ يناهز 53 عامًا بعد صراعٍ طويل مع المرض". كان تاريخ الإعلان منذ يومين اثنين فقط.
جلستُ لفترة طويلة هناك أفكّر في الأمر: رجل يتزوج امرأة تصغره بثلاثين عامًا، ثمّ يصاب بمرض عضالٍ ويموت في أحد الأيام.
والآن، بعد موته، تتنفّس الأرملة الشابة الصعداء...
لطلب المجموعة القصصية من هنا